14 سبتمبر 2025
تسجيليوشك شهر رمضان الكريم أن يحط برحال وقاره وقداسته على الأمة العربية والإسلامية، في ظروف استثنائية للمرة الثانية على التوالي، حيث لا يزال العالم بأسره يناضل ويكافح ويخوض معركة عنيدة من أجل الصمود في وجه جائحة كورونا التي تعصف بسلامته وتؤثر على وجدانه وتفكيره واستمراريته. فبينما تزداد أعداد الإصابات وترتفع نسب الوفيات لا ينفك كثير من الناس عن عقد حبال أفكارهم على تقاليد وأعراف وممارسات لا طائل منها، بداية من تبادل الهدايا المبالغ فيها بمناسبة الشهر الكريم، حيث يبذلون فائق جهدهم في التفنن والحذق في اختيارها مهما كانت كلفتها، ويتنافسون في إعداد العدة للاستقبالات والتجمعات الرمضانية المتبادلة والمتواترة فيما بينهم، وانتهاءً بمظاهر البذخ في التسابق للإعداد والتجهيز الرمضاني، الذي من سماته أن يكون مميزاً ومختلفاً عن كل سنة!. فلمَ هذا التسابق والتزاحم غير المبرر في إبداء الشعور المفرط بالتباهي والغرور بالأفضل والأحسن والأمثل؟، ألا يعد ذلك من الشعور بالنقص وتدني النظرة الذاتية؟، وما زلت استنكر وفي ظل كل هذا الاستنفار من قبل وزارة الصحة ولجنة إدارة الأزمات، تعمد البعض التساهل بالتعليمات وعدم التقيد بالاحترازات الوقائية، ومواصلة تداول الدعوات لارتياد الولائم والتجمعات وخصوصاً العائلية منها، ضاربين عرض الحائط بالمحنة وبالعدو الماكر المتربص داخل وخلف أسوار منازلنا!، رغم تزايد الحالات بين الأسر والأقارب، فهل هذه ضروريات لا يمكن الاستغناء عنها؟، أم هي ضرب من الاستهتار واللامبالاة؟، وإن كانت كذلك فما دوافع هذا الاستهتار الذي وصل بنا إلى مرحلة لا نرغب فيها جميعاً، حيث الإغلاق شبه التام، والذي يعتبر شبه توقف لمظاهر الحياة بالتأكيد، فما المجدي بعد خراب البصرة؟، وماذا بعد اللتيا والتي؟ هذه عاقبة الانحياز الأناني والاستكبار والاستعلاء والتحدي لقدرة الخالق عز وجل. ألهذا الحد تملكتنا سطوة الدنيا وزينتها وزخرفها، فاستحقرنا حتى الابتلاء الذي يبتلي الله به العباد ليرفع درجاتهم ويضاعف حسناتهم ويكفر عن سيئاتهم، ويوفيهم أجورهم بغير حساب؛ إن صبروا واحتسبوا وحمدوا وشكروا الله عليه، يقول سبحانه "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"، إنه لمن المحزن أن نتساهل فيما أومرنا به، وأضعف الإيمان الالتزام بما يجنبنا ويجنب هلاك وغرق الإنسانية، فلسنا وحدنا على هذه السفينة، حقا إنه من المؤسف هذه الحال التي وصل إليها البعض منا والتي تستوجب النعي والخجل من الخالق سبحانه. ومما لا شك فيه أن هذه السلوكيات لا تساهم بشكل أو بآخر، في الشعور الجاد والمنتظر من الأفراد كافة، فالمسؤولية المجتمعية تقتضي تحمل الأفراد جانبهم من المسؤولية، حتى يساهموا في تحقيق الغاية الأعظم وهي عرقلة انتشار الفيروس وبتر أياديه المسعورة، فجميعنا مسؤولون، ومساءلون أمام الله عز وجل، لاسيما أن الدولة لم تدخر جهداً أو مسعى في سبيل الحفاظ على صحة وأرواح المواطنين، فأخذت بالأسباب وحشدت الجهود واستثمرت الوسائل الممكنة لضبط آلية التعاطي والمعالجة في كفاحها ضد خصمها السافر العربيد، فالرهان الآن ينصب على وعي الأفراد والمجتمعات، باعتباره الركيزة المتينة وحجر الزاوية في مواجهة الوباء واحتواء تفشيه، فلن تكون التعليمات والاحترازات ذات جدوى إلا بالالتزام الكامل والطوعي من جميع أفراد المجتمع لضمان التعايش مع هذا الوباء والقضاء عليه نهائياً، وهذا ما يتطلب التعاون في تطبيق الإجراءات الاحترازية بدقة، وعدم التهاون والاستهتار بالأنظمة الصحية، فالمرحلة التي نمر بها حرجة ودقيقة للغاية، وتتطلب بالغ الحرص والحذر، فلابد من تكثيف الجهد الوقائي في هذا الشهر الكريم نظراً لتعدد الأنشطة الاجتماعية والتجمعات العائلية. وقد تمتد بنا الجائحة إلى أبعد من ذلك حتى تتمكن الإنسانية قاطبة من أن تتفطَن إلى الدروس والرسائل الإلهية والعبر الكونية المتوارية في انعكاسات هذه الجائحة على الفرد والمجتمع الإسلامي والعالمي. ومما قد يعيننا على اكتشاف هذه الرسائل والدروس والعبر هو التأمل في أنفسنا وحياتنا، بشكل وطريقة مختلفة، ومن مفهوم عميق وراديكالي، يمكننا من الغوص في خلجات النفس وأغوارها، فنقوم اعوجاجها، ونكبح جماحها، ونردع فورانها، ثم نهذبها بالإيمان ونجملها بالطاعات والعبادات ونشذبها بالأخلاق والقيم. ومن فضل الله تعالى وكرمه أنه يبتلينا ويضيق علينا بل ويعتصرنا اعتصاراً، ثم يشملنا برحمته وعطفه، فيشاء أن يخفف عنا ويرأف بنا فيهيئ لنا رمضان شهر التقوى والعبادة والطاعة ونحن تحت براثن هذا الوباء الهمجي، حيث يمتاز شهر رمضان بخصوصية متفردة وروحانية عظيمة، فيمد إلينا حبل النجاة والسلامة، كفرصة نعوض بها تقصيرنا نحو التزاماتنا الدينية والدنيوية، وذلك لمن صدق النية واستيقن فحوى الشعيرة، فصام بقلبه وجسده وجوارحه عن أي مظهر أو عادة أو بدعة تسللت إلى مناسك رمضان فتبددت شعائره في أودية التقاليد والموروثات والممارسات التي هيمنت على معاني رمضان العظيم وطهارة الشهر الفضيل. وهذا هو الجانب الروحي وهو أحد الجوانب الأربعة التي يرتقي من خلالها الإنسان ويتطور ليسعد في حياته، فبخلاف هذا الجانب هناك الجانب العقلي والجانب العاطفي والجانب الصحي، ولو تدبرنا النظر قليلاً لوجدنا أنه في شهر رمضان المبارك فرصة للتركيز عليها مجتمعة، خاصة إن صغنا أهدافاً بغية تحقيق نجاحات وتقدمات صغيرة على مستوى هذه الجوانب، وبالتالي نكون قد استثمرنا وقتنا في شهر رمضان المبارك أفضل استثمار، فليكن رمضانك هذه السنة استثنائياً بجميع المقاييس، ومركزاً على تطوير ذاتك في جميع الاتجاهات الفكرية والروحانية والبدنية والقلبية، فالإنجازات الصغيرة التراكمية مصدر إحساس بالفخر والثقة بالنفس. وأخيراً يبقى عدم التساهل والتراخي في اتخاذ كافة التدابير الاحترازية في شهر رمضان والتقرب إلى الله بالدعاء والطاعات والعبادات أفضل الطرق للتعايش مع هذه الجائحة، والتفاعل مع أنظمة وأجهزة المجتمع لاحتواء هذا الوباء الآثم ولا مبرر لأي فرد في التهاون والتقليل من شأن الجائحة، فهي أقسى اختبار وأعظم تمحيص للنفس البشرية في جوهرها ومختلف منازلها ومظاهر عيشها. [email protected]