01 أكتوبر 2025
تسجيلكان الفاضل مطربا شعبيا، وكان طويلا وعريضا وأقرب للمصارعين منه إلى موقدي جمر العواطف. في أحد المساءات كان يغني في حفل عام، وأمامه صف من الفتيات الجميلات، يتأملهن بشغف، ويزداد رعونة في الغناء، كلما ارتشف ابتسامة، أو التقط تلويحة من يد ناعمة. كان الراقصون يصعدون إلى المسرح، يتمايلون قليلا أمامه ويهبطون، يصعد غيرهم، يتمايلون أيضا ويهبطون، وصعد رجل يرقص بهستيريا، التصق بالمسرح لأكثر من ربع ساعة، لدرجة أنه شتت مقاطع الأغنية، وحجب عن المغني طوفان الجمال أمامه. فجأة أمسكه الفاضل من رقبته، رقصه قليلا في الهواء وما زال يغني، ثم مضى به إلى خلف المسرح، ألقاه في الكواليس وعاد. كان المايكروفون لا يزال في يده، والأغنية لم تنقطع أبدا. ٢ كان الدكتور ملوال، زميلا لنا، يعمل في قسم الأمراض الباطنية. في أحد النهارات، قصد بيتا للخمور البلدية، في أحد الأحياء الطرفية من المدينة، وخرج في أول المساء يترنح. عثر عليه سائق عربة أجرة ملقى على الأرض، سابحا في القيء والعرق، أحضره للمستشفى وهناك فحصه الطبيب المناوب، وأدخله العنبر للملاحظة، بعد أن كتب على أوراقه: مجهول، ولم يخطر على باله أبداً أنه الدكتور ملوال. في العنبر تلقاه ممرض الليل المتثائب، أرقده في أحد الأسرة القذرة، وعلق على يده محلولا وريديا، وعاد إلى كرسيه يتثاءب، وأيضا لم يفكر لحظة أنه طبيب العنبر. في الفجر استيقظ الدكتور ملوال، تأمل بعينيه المكان وعرف على الفور، أنه يرقد في العنبر الذي يشرف عليه شخصيا. غافل ممرض الليل، وانطلق إلى سكن الأطباء القريب، اغتسل وأفطر، وغير ملابسه، وعاد بعد ساعتين إلى نفس العنبر، يعلق سماعته الطبية على رقبته، ويطوف على المرضى الذين زاملهم في الليل، غائب الشعور. ٣ كان ذلك في أوائل التسعينيات، وكانت فتاة سمراء ومليحة وواسعة العينين بشكل ملفت للنظر، تلازم والدها المحتجز لدينا بأمراض خطرة مثل تليف الكبد وجلطة الدماغ، واحتمال ورم في الأحشاء. كنت أراها يوميا عشرات المرات، تجلس بجانب والدها في العنبر المزدحم، تدلك يديه وساقيه، أو تقرأ كتاب: رحلة المليون، لغادة السمان. كانت تسألني كثيرا، وأجيب كثيرا وحدثتني مرارا عن زوجها لاعب الكرة النجم، الذي منعه انشغاله في معسكر تدريب، عن الحضور معها من العاصمة، لكنه يتابع حالة الوالد يوميا، ويتولى مصروفات علاجه بالكامل. وأرتني صورا كثيرة مقتطعة من الصحف لذلك الزوج النجم، وهو يركل كرة في شباك الخصم، أو يتشنج عقب هدف أحرزه، أو في وسط معجبين منبهرين، وأخبرتني بأنه بات يعرفني جيدا ويسعده أن أكون ضيفا في بيتهما في أول زيارة لي للعاصمة، وعرفانا منها لما قدمته لوالدها، أهدتني كتاب رحلة المليون الذي ما زلت أحتفظ به إلى الآن. بعد شهرين مات والدها وما عاد لها وجود سوى صورتها في مخيلتي. منذ فترة التقيت مصادفة بلاعب الكرة القديم، كان قد تهدم وتثاقلت مشيته، وما عاد يملك من مجده سوى ذكريات البطولات الذائبة في التاريخ، تحدثنا كثيرا وسألته عن زوجته التي كنت أعالج والدها ذات يوم، فنظر إليّ مندهشا، وأخبرني وما زالت بقايا الدهشة عالقة بوجهه: إنه لم يتزوج قط.