13 سبتمبر 2025
تسجيليطلق الخلف في اللغة مرادا به: الطبع والسجية والدين والمروءة، وفي الاصطلاح: قوة راسخة في الإرادة تنزع إلي اختيار ما هو خير وصلاح، وإذا نظرنا إلى طبيعة النفس التي خلقها الله نجد أن من صفاتها أنها أمارة بالسوء، تحض صاحبها على فعله {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} ولذلك ذكر أهل العقل والحكمة أن المنتصر في معركة النفس من جاهدها لا من سالمها، لأن طبيعتها التي فطرت عليها تحتاج إلى كبير ترويض، وكثير توفيق، وجهد وعناء، وتحمل للبلاء، يقول بعض السلف: "النفس إذا أكرهتها على شيء مما يحبه الله من صلاة أو صيام أو صدقة أو قيام، فلم تستجب لك، وإلى حسن السير لم تطعك، فعاقبها عقاب من يخاف الفوت، ويخشى عدم اللحوق بالركب، وذلك بألا تطعها في مباح ما تشتهي، فإن ذلك من أفضل الأدوية لها، ومن أقوى الروادع لكبح لجامها، وليس هذا بعسير بيد أنه يحتاج إلى جهد كبير، فأشد من مجاهدة العدو مجاهدة النفس، نبينا -عليه الصلاة والسلام- جعل للذي يملك نفسه عند الغضب من القوة والشدة ما ليس للذي يغلب الناس ويصرعهم فقال: "ليس الشديد بالصرعة، قالوا: فمن الشديد يا رسول الله؟ قال: الذي يملك نفسه عند الغضب "- رواه مسلم في الصحيح، وعندما سأل البصري حسن أي الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك نفسك وهواك، وقال الثوري سفيان: ليس عدوك الذي إن قتلته كان لك به أجر، إنما عدوك نفسك التى بين جنبيك، فقاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك، والعلة في ذلك أن الشيء إنما يفضل ويشرف بشرف ثمرته، وثمرة مجاهدة النفس الهداية من الله وأعظم بها من أجر{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فيا أيتها النفس أنت على جناح سفر، ودارك هذه دار غرور وكدر، والمسافر إذا لم يتزود صالحا ركب متن الخطر، وخير الزاد التقوى كما أنزل على سيد البشر، فجدي السير، وشدي المئزر، وذاك بتجريد عزم التوبة، والتلبس بلباس الأوبة، وملازمة ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات فلا تتركي عمل اليوم لغد، فالوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، إن مجاهدة النفس من أعظم أنواع الجهاد، وإن المرء معها في صراع ما بقيت في دنياه حياه، فإذا قويت عليه أو اقتربت، فلينتبه، فهنا بدأ النزال:سلط عليه سوط العزيمة، فإنها إن عرفت جدك اِستأسرت لك، وامنعها ملذوذ مباحها، ليقع الاصطلاح على ترك الحرام، فإذا صبرت على ترك المباح (فَإِما مناً بَعدُ وَإِما فِداء)واعلم أن الدنيا والشيطان خارجان عنك، والنفس عدو مباطن، ومن أدب الجهاد (قاتِلوا الَّذَينَ يَلونَكُم) إِن مالَت إلى الشَهوات فاكبِحها بِلِجامِ التَقوى، وإِن أعرضت عن الطاعات فسقها بسوط المجاهدة، وإن استحلت ثوب البطالة فصح عليها بصوت العزم، وإن رمقت نفسها بعين العجب فذكرها خساسة الأصل، فإنك والله ما لم تجد مرارة الدواء في حلقك، لم تقدر على ذرة من العافية في بدنك، وقد اجتمعت عندك جنود الهوى في بيت النفس، فأحكم الحصن، وناد بأعلى صوت: يا حزب التقى جردوا سيوف العزائم، وادخلوا عليهم من كل باب، واعلم أن نيل العلا بالكدح، وأن وارتقاء درج المجاهدة بالصبر، أتروم الحصاد ولم تبذر؟ لولا إيثار يوسف -عليه السلام- في قوله (رب السِجنُ أَحبُ إِليّ) ماخرج إلى راحة (وَكَذلِكَ مَكَنَّا).