11 سبتمبر 2025
تسجيلالشعب مصدر السلطات هو قاعدة بناء الأمم وبقائها، وليس شعارا يرفعه البعض حسب الهوى وكأنه فضل منه، فمؤسسات الدولة بالأساس أدوات للوفاء بالمسؤوليات ومهام في حياة الدول، وتمنح لها السلطة وفق معايير يحددها العقد الاجتماعي (الدستور) والقوانين المكملة له، والتي تمكنها من أداء مسؤولياتها لضمان الحياة والتقدم نحو المستقبل. عندما يخرج الشعب ـ والذي هو مصدر السلطات ـ على نظام الحكم، فهذا ليس ضد طبيعة العلاقة بين الشعب والسلطة ولكنه استرداد لحقه وإرادته، والخروج الشعبي في مراحله الابتدائية يكون محاولات توجيه بإعلان مطالب يرى الشعب حاجته إليها، ويتحول الخروج المطلبي إلى ثورة عندما يرى أن سلطة الحكم غير مؤتمنة على إرادته وحاجاته والمسؤوليات التي انتدبها للقيام بها، وحولت حالة التفويض الممنوح لها إلى حالة ملكية، تتخذ من الاستبداد والعنف والتآمر سبيلا لاستمرارها في سلطة الحكم. الثورات في تاريخ الشعوب ليس فعلا انتقائيا، ولا يخضع لإعادة تعريفه وتوصيفه بادعاء الحكمة بأثر رجعي، فالثورات تهدم أسس السلطة، وإن ظلت بقاياها والمنتفعون ركاما يجب إزالته، ومن طبيعة الأمور أن يقاوم هؤلاء دفاعا عن مصالحهم التي لم يقبل بها وكانت استنزافا للوطن اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ومهما علت أصواتهم فهي إلى نهاية محتومة بالسقوط كما النظام الذي أتاح بيئة وجودها على حساب الشعب. الثورة الشعبية فعل جماعي يتم في زمن محدود ولكن لشعبيته فإن إتمام عملية التغيير في المجتمع لما ترتب على حكم النظم السابقة هو ما يحتاج إلى زمن ورؤى ومهام ورجال. فقد نظام حسني مبارك قدرته على مواجهة الثورة الشعبية لأنه مع كافة الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنه استبدل الوطن بخريطة التوريث، وألفت كلمة التوريث بين الشعب والقوات المسلحة، وتجاوز الشعب العجز السياسي للأحزاب وعناصر النخبة. وفقد نظام الإخوان مبرر استمراره لأنه استبدل خريطة الثورة بخريطة الجماعة السرية، وسعى إلى تفكيك الدولة، وتجاهل الوطن وعاش وهم الخلافة، واستبدل وحدة الشعب التي حققتها ثورة يناير إلى تقسيمه بين مسلم وكافر، وتآلف مع الجماعة كافة التنظيمات الدينية بلا استثناء، وأيضا كانت حركة الشعب متجاوزة الحياة السياسية والحزبية، وكان للجيش دوره وحسم الصراع لصالح الشعب. هنا يلزم النظر إلى الفترة بين 30 يونيو و26 يوليو 2013 والتي كشفت طبيعة المواجهة وعمق اتساعها، فهي لا تقتصر على الداخل ولكنها ترتبط بأمريكا والغرب، ولم يعد الغرب حكومات ولكنه حلف الناتو، وهي مواجهة لا تتوقف عند السياسة ولكنها تذهب إلى الأساطيل، وأن هناك جماعات وأفرادا جرى استدعاؤها وتمكينها من بؤر آمنة ومسلحة وممولة، وعقيدتها القتل، واتضح أيضاً أن المواجهة تتصاعد إلى استحلال دم كل الشعب وليس مواجهة مع سلطة، وأن المواجهة تشمل كافة التنظيمات الدينية. كان شعار الهجوم (شرعية الصندوق) في مواجهة الانقلاب العسكري، وتغاضي الخارج ومعه قطاع غير قليل في الداخل من النخبة والجمعيات الحقوقية عن حقيقة أن المواجهة بين شعب وجماعة وأن القضية هي هوية وطن ودين واستقلال وطني. لقد كشفت هذه الفترة أنه كما استحدثت أمريكا عبر المخابرات المركزية الأمريكية فكرة الجهاد ضد الجيش السوفييتي الملحد في أفغانستان، وأنتج مشروع الجهاد الأفغاني تنظيم القاعدة، فقد استعملت أمريكا جماعة الإخوان ومن والاها في مواجهة الثورات الشعبية ضد الاستبداد، وعلى ذات القاعدة (المؤمنون في مواجهة الكفر والإلحاد)، والملحدون هنا ليسوا جيش احتلال شيوعي، ولكن الملحدون هنا هم الشعب. حرق الأرض والمراحل هو سمة ما بعد 26 يوليو 2013. جماعة الإخوان السرية وامتداداتها الخارجية تسعى إلى إعدام يوم 30 يونيو 2013 وحرقه من خريطة الزمن، ولأنه لن يتحقق، فليحرق الوطن والشعب وكافة المؤسسات. وأخطر ما نتج عن 30 شهر السابقة على يونيو 2013 هو ذلك التوافق المشوه بين موقف الجماعة وحركات يسارية وحقوقية وبعض من الشباب الذي مازال يئن تحت أحداث ووقائع مجلس الوزراء ومحمد محمود وماسبيرو والعباسية، هذا التوافق على خصومة مع الجيش، تتعدد الأسباب ولكنها خصومة في لحظة مواجهة بالقتال مع تنظيمات إرهابية واحتمالات مواجهة قادمة من أمريكا والناتو. ومن ناحية أخرى فخريطة الطريق تكاد تحرق أهم مرحلة من مراحل الثورة وهي مرحلة "التطهير"، وأكثر من ذلك يخرج من الحكومة ومستشاري الرئيس المؤقت دعوات للمصالحة، وكأن الحكمة هبطت على هؤلاء الأفراد (وأعني كلمة الأفراد) الذين جاءت بهم الصدف غير المفسرة حتى الآن، ومنحتهم الحكمة حق حرق 30 يونيو بل ويتجاوز البعض إلى حرق 25 يناير 2011. أنتجت الحرائق المشتعلة ستارا من الدخان الكثيف يترنح بين إطلاق مقولات "نكسة يناير"، "المصالحة وعدم الإقصاء"، "الاعتذار"، "رموز الثورة"، وهذا الدخان يزيد النار اشتعالا في وقت يجب أن تزداد اللحمة بين الجيش والشعب وأيضا الشرطة، حتى لا يجد العنف شروخاً في البناء الوطني يستطيع النفاذ منها. وكي يتقبل الشعب ثمن العنف يجب أن يرى المستقبل دون نظامين ثار عليهما "مبارك والإخوان"، ودون كل من تغيرت وتبدلت ألوان جلده طوال الفترة من 25 يناير (الثورة) و30 يونيو (استرداد الدين والدولة والثورة)، و26 يوليو (الاستقلال الوطني). إن مهمة التطهير أعمق مما يطلق عليه العدالة الانتقالية، فالمهمة بعد 30 يونيو 2013 تضاعفت فهي تواجه: 1. نظام مبارك والحزب الوطني وقياداته. 2. جماعة الإخوان السرية والجماعات الموالية لها والأحزاب التي أنتجتها. 3. مؤسسات الدولة التي ينتشر في داخلها سرطان الفساد وزاد عليه ما أضافته فترة حكم جماعة الإخوان. وذلك على التوازي مع مواجهة الإرهاب والعنف الذي أطلقته الجماعات الدينية في كل المجتمع. الإقصاء والعزل السياسي ركن أساسي في الثورات، والإقصاء للرؤى والأساليب يعني إقصاء للأدوات سواء كانت تنظيمات وأحزابا أو أفرادا. والإقصاء والعزل للحزب الوطني يعني حل كيان الحزب وكل مؤسساته والعزل السياسي لكل من أسهم في الفساد السياسي (وليس الجرائم)، وهو أمر بالأساس سياسي، وهي مهمة للثورة يجب تحقيقها، ولا يصلح استخدام قوانين ما قبل الثورة، وإلا فإننا نعيد تسليم الأمور لنفس النظام، وهذه مهمة يجب أن تسبق إجراء أي انتخابات نيابية أو رئاسية، وغير هذا فإننا نلتف على الإرادة الشعبية. التفريط في مهمة التطهير في المرحلة السابقة تجاه نظام مبارك، أدخلنا في دوامة إقرار التطهير تجاه فترة حكم الإخوان. الأمر في حالة جماعة الإخوان مركب، نواجه تنظيما سريا (نظام الخلايا "الأسر")، وله ارتباطات خارجية. تنظيم عقائدي (جماعة ربانية كما وصفها مرشدها العام)، علاقات تنظيمية أساسها السمع والطاعة (تنظيم حديدي)، وبداخله تنظيم خاص (تنظيم مسلح سري على أعضاء الجماعة أنفسهم). والجماعة التي جرى حلها عام 1954، استعادها السادات وعاد في نهاية أيامه يعلن خطأه على السماح لهم باستعادة نشاطهم، وتعامل معهم نظام مبارك، ووصل الأمر بالجماعة أن تقبل بالتوريث مقابل استمرارها. وأنتجت الجماعة في مواجهة المجتمع ما سمي بالذراع السياسية للجماعة (حزب الحرية والعدالة)، وصمت الساسة وإدارة المرحلة الانتقالية ولجنة الأحزاب ووصلوا إلى حد الموالسة. هناك فارق بين الكفاح المسلح في مواجهة محتل غاصب، وبين عقيدة العنف لدى التنظيمات الدينية كعقيدة وجود وبقاء تقدم بالأساس على رفض المجتمع وليس مجرد السلطة، وعقيدة العنف والسلاح هي الحاكمة لكافة التنظيمات الدينية، تستعيض عن الدعوة بالرصاص، وعن المسؤولية تجاه المجتمع بالانعزال عنه والتمايز بالإيمان عن مجتمع يتهمونه بالكفر. وهناك فارق أيضاً بين الإقصاء والاحتواء، وفارق بين الخداع بالاعتذار من جماعة سرية وبين الابتزاز للمجتمع بالاعتذار. وهناك أيضاً فارق بين التطهير بالأمن والتطهير بالثورة، مهمة الأمن مواجهة العنف، ومهمة المجتمع المواجهة السياسية، يقول البعض المواجهة بالعقل والقانون وليس بالعضلات، ولكن اللحظة تحتاج إرادة الثورة ووضوحها سواء كانت بالعقل أو العضلات. هكذا يقع الشعب الذي هو صانع الثورة وهو الذي استخلص إرادته وهو الذي قدم الشهداء وصبر حتى اللحظة، وهو مصدر السلطات، يقع الآن في كمين مزدوج أو بالأحرى ثلاثي الأبعاد، التطهير والإرهاب وأمريكا، وهو مطالب أن يذهب من جديد إلى صناديق الانتخابات ليختاروا، والمعروض عليهم بالأساس مرفوض. وكأن مصر مازالت دون الوجود، أن يخرج من بين شبابها من يرى نفسه رمزا للثورة، وتكرر الحديث عن رموز للثورة، والثورة عندما تنتج رموزها، تجدهم شهداء أو فاقدي البصر، أو مصابين بلا مقابل، أو تجدهم يحملون مشروع الثورة للشعب بمهام يشاركهم فيها، ويسمح هؤلاء لأنفسهم باسم أنهم الثورة أن يعرضوا لمهام الوطن بشكل من الرعونة والتسيب دون إدراك لحقيقة اللحظة التي يمر بها الوطن. إن المتحدثين عن كونهم رموزا للثورة، أو الذين جاءت بهم الظروف إلى مناصب في الرئاسة والوزارة، يجب أن يدركوا جميعهم أن الشعوب لا تستخلص إرادتها المرة تلو الأخرى ليفرطوا هم فيها أو يصنعوا بها أمجادا شخصية. الفضائيات لا تصنع رموز الثورة، وختم الحصانة الذي يحمله أي شخص شارك في أحداث الثورة، ومهما كانت تضحياته، ليس مبررا له أن يخادع نفسه ويشيح بوجهه عن مسؤوليات المرحلة لمجرد أن ينال وجودا له مقابل أو بدون مقابل. أيقونة الثورة هو الشعب والشهداء وأبناؤهم وأهلهم، ورمز الثورة هو الشعب، ومستقبل الثورة بيد الشعب. ما يجري فوق الأرض المصرية سوف تتكشف أوراقه كاملة، من يتحمل التضحية حتى بلقمة العيش كما الدم، ومن يتعايش على آلام الشعب ودماء أبنائه، وعندها لا يلومن أحد غير نفسه.