11 سبتمبر 2025

تسجيل

الكتلة الشعبية الوازنة!

10 مايو 2011

تقاطر المدعوون صباح السبت 7 مايو 2011، إلى مركز المؤتمرات بمدينة نصر لحضور مؤتمر مصر الأول، يلبسون ملابس العيد، الكل يتعانق، شباب في مقتبل العمر، وبأدب جم يقومون بتسجيل الحضور، الحالة التي يحياها الجميع هي مصدر الأمن، صافحت الدكتور إبراهيم الزعفراتي القيادي الإخواني، هل جاء مشاركا أم معتذرا؟، فالإخوان اعتذروا بعد الاكتفاء بغنائمهم من الثورة، ولا يعنيهم الموقف الوطني الجامع، صافحت الدكتور محمد مندور في عناق طويل، لم أره منذ أن غادرنا السجن معا عام 1972، بادرني قائلا: لي خمس سنوات في دارفور، من قبلها في فلسطين، تذكرت جيفارا وحملاته الثورية، هنا امامنا مندور وحملاته الطبية، والعقيدة والانتماء الثوري والاجتماعي لديهما واحد. الكل جاء علي رجاء أن يقوي بالكل، الكل جاء والأمل يسبقه، والرجاء والأمل لم يمنعا الواقعية. الكل في حذر، اليوم يجب أن يكتمل، وأن تصل كل رسائله إلى الجميع. رسالة وحدة القوي الوطنية ــ غير من اختار الوقوف خارجها ــ بأن الجميع معا، وأن كان الحوار مشواره طويل، ويحده توقيتات المهام، إلا أن الكل يرفض سرقة الثورة. ورسالة رفض للاختيار الذي تضمنه الإعلان الدستوري بناءا علي لجنة البشري بإحالة أمر الدستور إلى لجنة المائة الفنية، دون الحوار المجتمعي الوطني حول العقد الاجتماعي قبل الصياغات الفنية. ورسالة ثالثه تعلن قبول التحدي إن فرضت خيارات الإعلان الدستوري أن تذهب مصر مرغمة إلى الانتخابات النيابية المزعومة، وأن الجميع يحاول أن يكون معا في مواجهة هذا التحدي. وتصدح موسيقي النشيد الوطني ويغنيه الحضور وقوفا، 4300 عضوا الذين سجلتهم لجان الاستقبال، ويعلن مذيع المؤتمر البدء باسم الشهداء، وتنطلق موجة تصفيق عاليه لمدة عشر دقائق بلا انقطاع، تحية لأرواح من وهبونا فرصة للتطهر والعيش الكريم، مشهد مزلزل، أرواح الشهداء بيننا، ليسوا بعيدين، دموعا كثيرة تشهدها والكل في وقوف صامت، والتصفيق الحاد متصل ولا يخبوا، يحاول أن يصعد إلى السماء، عبر السنوات الضوئية الفارقة، يسابق رحلة الأرواح ليلقاها ويعانقها، والدموع تجري من الجميع، دموع حب ورحمة وعهد، والتصفيق يتواصل ومذيع المؤتمر يعاهد الله والوطن والشهداء. وتبدأ الجلسة الأولى ويأتي صوت الدكتور حسام عيسى النحاسي، واضحا، وقاطعا، فأستاذ القانون لا تخذله الكلمات المعبرة، والمحددة المعنى، والقاطعة الدلالة، فالموضوع وثيقة إعلان "مبادئ الدستور المصري القادم"، وهو لا يقدم الوثيقة، ولكنه يقول، منذ اليوم الأول الخامس والعشرين من يناير نزلت إلى ميدان التحرير ولم تغادره إلا بعد سقوط النظام وخلع رئيسه، وقال أنها تحدثت إلى "جمعية المحكمة الدستورية" بأنهم جميعا أمام فرصة تاريخيه، وأنها فرصة لمصر وليست عملا سياسيا، وأنهم يجب أن يكونوا والشعب في بنيان واحد، وهي من تقدم لكم الورقة: القاضية تهاني الجبالي نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا، ويقف الجميع في مشهد لا يخلو من الجلال، وموجة تصفيق حاد أخرى تؤكد أن المؤتمر يربط بين الشهداء وإرادة العقل فيه، تكرار من نسخة واحده، والقاضية، تقف في ثبات لا يأخذ بلبها عاصفة التحية، وأمامي بالقاعة شابة في رداء أبيض، ووجهها وعيناها أتصور أنه وجه كليوباترا تقفز الحيوية منه، تطلق صوتا عاليا كما صوت الطاووس وله استمرار غريب، يتصاعد الدم إلى وجهها وأسألها، ما هذا الصوت، وتقول أحب تهاني واحترمها، كنت أريد أن أطلق صفيرا، ولا اعرف، قأطلقت هذا الصوت، فقلت لها أنه صوت الطاووس، وقالت ضاحكة ابنة النيل الخمرية، التي يزين جيدها سلسلة فضيه علي شكل هلال يحتضن صليبا من فصوص تتلألأ: كنت أود أن يكون صوت الكروان!، كم أنت جميلة يا مصر العربية بأهلك. وبوقار المعنى الدستوري للكلمات تعلن الأستاذة تهاني أن هذا الإعلان هو جهد أساتذة القانون الدستوري وشيوخه في مصر، وتتلوه، وكأنها ابنة مصر البدوية التي صاغتها المحلة الكبرى وصاغتها ترانيم العشق لآل البيت التي يتغني بها أبناء طنطا البدوية، وشاركت أهل الثورة في ميدان التحرير طوال أيامها حتى خلع الرئيس، كأنها ترتل سفر الوجود الجديد الهابط علي مصر الثورة من السماء، ويكمل الفقيه الدستوري الدكتور محمد نور فرحات الخناق على "جريمة البشري" في حق مصر، ويقول بضرورة الجمعية التأسيسية لوضع الدستور وأن دور القانونيين هو الصياغة وليس البناء، فهذا حق أصيل للمجتمع وقواه التي تحيا فوق أرض الوطن. هذه المشاهد جمعت بين الحب والشهادة والوفاء والعقل والتقدير من الجميع وإنكار الذات. ويعلن المذيع الداخلي الحاجة إلى طبيب لحالة طارئة، ويجري الدكتور محمد غنيم أبو الكلي في مصر، بطول القاعة كما لو كان ابن العشرين، ويقفز الدكتور نزيه رفعت فوق حاجز ووزنه يتجاوز المائة وعشرين كيلو جرام، وتعدوا طبيبات بأعمار مختلفة من كافة أرجاء القاعة إلى خارجها لإسعاف الحالة، مصر تستدعي قدرتها في لحظة، دون صراع الأجيال الذي يصنعون منه الفتنة الجديدة. وكأن مصر تضرب مثلا جديدا لمعني المرأة من أهلها، لا تعترف بها التزاما بمواثيق ومعاهدات دوليه، فتلك المواثيق والمعاهدات الدولية لإلزام من لم يصنعوا الحضارة، ويدركون معني الإنسان، رجلا أو امرأة، وتستقي عناوينها لتحقق حقوقا ضائعة، ولكن مصر ــ التي خاضت تجربة أن يكون الحاكم امرأة مع حتشبسوت 1458 ق.م.، ومع شجرة الدر 1250م ــ تضع مضمون حقوق المرأة بممارسة ناعمة ولا تأبه بتلك الصياغات القاصرة. وهي مصر التي تأبي أن يشدها أحد إلى عصور الظلام بادعاءات دينيه، لا صلة لها بالإسلام الحنيف. سيدة أخرى، في عمر الزهور، وكأنها زهرة اللوتس المصرية، مضيقة جوية تقول عن نفسها ضاحكة: "دخلت الثورة من التليفزيون عندما شاهدت لقطة ضايقتني جدا قررت أني لازم أنزل". وتستطرد: "المشهد كان للرجالة ع الكوبري بتصلي والأمن المركزي مسلطين عليهم خراطيم المياه وطبعا عرفت بعد ما نزلت أنها مياه مجارى".. وتكمل: "وكانوا كل يوم يأتون قرب صلاة العشاء ويغرقون أرض الميدان بها، وكنا بنجيب أي حاجة جرايد رمل زلط طوب اللي نلاقيه ونقعد برضه!!" و "إحنا كنا بندفع بعض ونتخانق علشان كنا بنجري للشهادة لكن مع الأسف ربنا لم يكرمني بها"، "كان نفسى فيها قوي. كنت متخيله أنها لو حصلت هشوف بابا وأهديها له وأخلد أسمه في الدنيا لما يكتبوا أسمى مع الشهداء بس لسه عندي أمل ياااارب يكتبها لي"، "والله العظيم كان بيضحك لي أنا عارفه أنه كان عارف أنى هعمل كده وكان مرتاح وفي أثناء الثورة كنت دايما بقول لزمايلي مش إيمان اللي واقفة معاكوا لأ ده ناجي مصطفى اللي واقف مش أنا. كان نفسي أشوفه وساعة التنحي في الميدان بعد ما قلت الحمد لله فضلت أنادى عليه بأعلى صوت وأصرخ وأقوله الحمد لله يا بابا اللي كنت عايزه، ولادك عملوه ومش عارفه هتصدقني ولا لأ بس كنت شايفة وشه بينظر لي ويضحك ويقولي زي ما كان دايما بيقول شاطره يا إيمان بنت أبوكى صحيح أنا عارف أنى خلفت راجل. الله يرحمه". لون من المشاعر يحدد دافعا لم يرصده المحللون، دافع اختمر ولم يكن حدثا انفعاليا، وهو يقول أن الجيل الذي تحرك كان امتدادا لجيل سبقه، ولحظة الثورة تحددت عندما وصل حجم نمو الرفض وانتشاره الحجم الحرج الذي أديى للانفجار. زهرة اللوتس المصرية ابنة النيل كانت من الجرانيت الأحمر، وجدتها في المؤتمر، جاءت لتشارك في التنظيم. ويتحدث محمد فائق كلمة المؤتمر الرئيسية، ويتضمن المؤتمر مداخلتين واحدة لنجل جمال عبدالناصر المهندس عبدالحكيم، والمداخلة الأخرى لناجح إبراهيم أحد قيادات الجماعات الإسلامية، ويحضر المؤتمر رئيس الطرق الصوفية!. كأن المؤتمر ينافس ذاته، كان يحاول أن يقوم بكل المهام الفكرية، والتنظيمية وإنتاج قياده للثورة، عبر محاوره، وخلال يوم واحد ويستهدف المؤتمر الوصول إلى توافق عريض حول عدد من المسائل الأساسية: المبادئ الأساسية للدستور القادم، ورؤية مستقبلية للتنمية ومتطلبات العدل الاجتماعي، وأهمية دعم قائمة انتخابية موحدة، التوافق على مجلس وطني لدعم واستمرار الثورة. وتقدم المؤتمر على هذه المحاور، علي وعد بان يكون اللقاء الثاني في النوبة، بأقصى الجنوب. وأن تبدأ مهمة إنجاز المجلس الوطني بإنتاجه من قاعدة شعبيه تمتد بطول الوطن وعمق تكوينه. اقترب المؤتمر من نسبة 50% من مقاعد المجالس النيابية للعمال والفلاحين، وخرجت أصوات كثيرة تطالب بالغائها، ووقف أحد الفلاحين ليقول أنه منذ غياب عبدالناصر، وأصبح العمال والفلاحون غائبين عن المشهد الوطني، وكأنه يذكرهم بغياب تمثيل العمال والفلاحين بما يتناسب مع وجودهم في المجتمع، وأوضح الحاجة إلى مؤتمر لدراسة ممارسة الحياة السياسية في مصر، وأننا في حاجة للمصالحة مع تاريخنا، وأن القضايا الاقتصادية تحتاج إلى مؤتمر علمي يخصها، وكذلك قضية العنف المتزايد، وقضية التنظيمات الدينية والخطر علي المجتمع، ويكشف ذلك أن الجمعية الوطنية للدستور هي محطة الوصول عبر مسارات عديدة، وليست مجرد استنباط لمواد دستورية جامدة. كتلة شعبيه ينقصها أن تكتمل ببضع إضافات لا تحتاج التعجل، تبدأ من مؤتمر مصالحة التاريخ الوطني الذي تملكه الأمة، وتمر عبر تمثيل الفلاحين والعمال، وتبحث أمر اقتصاد الوطن في مؤتمر خاص به، وأن تنضج آلية بناء المجلس الوطني. المؤتمر أعلن ميلاد مشروع الكتلة الشعبية الوازنة للعلاقات داخل المجتمع، وانتقلت المهام إلى الجغرافيا والقضايا الضرورية لبناء الدولة والحياة السياسية، فهل ينجح المؤتمر في مهامه؟ الزمن أمامنا.