16 سبتمبر 2025
تسجيل9 الاستقلالية والاستبداد أن تكون صحفيا ناجحا في قناة إعلامية جريئة ومؤثرة وواسعة الانتشار، لا يعني أن تحتفي بك سلطة بلادك بما يقتضيه ذلك النجاح، بل عادة ما يحصل العكس إذا كان النظام مستبدا لا يؤمن بحرية الصحافة ويعمد إلى التضييق عليها ومحاصرتها لفرض الرأي الواحد والخبر الواحد والتحليل الواحد. بل يصل الأمر الى الصورة الواحدة. فإذا كان كريشان يقرّ في كتابه أنه لم يتعرض الى مضايقات أمنية طوال عمله بالجزيرة ما عدا مرة واحدة تم تفتيش أغراضه بمطار تونس قرطاج بطريقة تنبئ بالتشفي، فإنه لم يكن مرحّبا به في الأوساط الرسمية التي تحمله أكثر من طاقته فتعتبره مسؤولا عن كل ما يبث عن تونس بالجزيرة، ويكون التعامل معه بمثابة متغيرات البورصة كلما كان هناك بثّ لأخبار المعارضة التونسية أو تلك المتعلقة بالحقوق والحريات كلما كان الغضب أشد. لذلك لم تتردد في تصنيفه سياسيا فهو "خوانجي" كما وصفة عبد العزيز بن ضياء أحد أهمّ مستشاري المخلوع بن علي وأحد السياسيين النافذين بالبلاد. وكلمة خوانجي التي تستعملها السلطة المستبدة وأذنابها في توصيف تحقيري للإسلاميين توحي بإخراج المصنّف من "الملة" في ظرف كان الاسلاميون مسجونين ومطاردين. وهو في تصنيف ثان اعتمدته الصحافة الصفراء التي تأتمر بأوامر السلطة فهو "عميل" لأنه يعمل بقناة أجنبية ويسمح لها ببثّ "سمومها" ضد وطنه. تصنيفات عديدة لم يخجل كريشان من ذكرها بكتابه، في تصالح واضح مع الذات، لكنها تصنيفات تبرز في نظرنا أن النظام الاستبدادي الذي هيمن على الاعلام في بلاده، لا يريدك ان تكون ناجحا مشعا حتى من خارج البلاد، كما لا يريدك حرا تحترم المهنة. يريدك فقط أن تكون تابعا في طابور الصحفيين الذين يعتمد توظيفهم كلما أراد ذلك، وما قصة أحد السفراء التونسيين بالدوحة الذي أراد توظيف صحفيي الجزيرة التونسيين بأسلوب مخابراتي إلا أحسن دليل على تصور السلطات التونسية لدور الصحفي. قصة أوردها كريشان في الكتاب تبرز سعي السلطات التونسية لليّ ذراع الجزيرة بدل تفهم حقيقة القناة وحرصها على تقديم إعلام حر مختلف عن الإعلام الرسمي. 10 ما بعد الصحافة أو ما بعد الحقيقة يحرّك كتاب محمد كريشان سواكن كامنة فيك كصحفي، فحين تفرغ من قراءة الكتاب الذي اختزن تجربة أربعين سنة ستدفع دفعا إلى السؤال ما علاقة هذه التجربة الثرية في أحداثها، والمتنوعة في مضامينها، والحريصة على احترام أصول المهنة الصحفية وقواعدها كما تُدرّس في كليات الاعلام، وبين المتغيرات التي طالت المهنة عبر ما بات يُعرف بمزاحمة منصات التواصل الاجتماعي التي قايضت في كثير من الأحيان المعايير المهنية التي أشرنا إليها في العناصر السابقة، قايضتها بالسرعة، والإثارة، والتضليل، والبحث عن نسب الإعجاب. سؤال يدفع جيلا بأسره من الصحفيين إلى الحيرة عن مصير مهنة حلموا بها وبنوا جزءا من مواثيقها، وناضلوا من أجل بقائها حرة، وهم يشاهدون تلك المعايير الصحفية تنهار تدريجيا من يوم الى آخر، لأنه مع "استبداد" السوشيل ميديا بات منظّرو الإعلام يتحدثون عن "ما بعد الحقيقة" و"ما بعد الصحافة" إقرارا منهم أننا دخلنا مرحلة جديدة لا تعكس ذلك الحرص لدى الجيل السابق من الصحفيين، على الدقة واللهث وراء الخبر والسبق الفعلي، واحترام مصادر الخبر ونسج علاقات ثابتة معها. فقد انتقلنا من كل تلك القيم إلى تسطيح الوعي، واستسهال النشر دون دقة أو صرامة يفرضهما الانتصار للخبر وللحقيقة، بل الخشية أن نصل إلى تعميم الجهل ما دام الفضاء مفتوحا للتعبير في كل القضايا أمام من لا اختصاص ولا معرفة لهم. تفاصيل كريشان تكشف من حيث لم يرد الكاتب معركة جيل صحفي من أجل الحقيقة، مقابل مرحلة ما بعد الحقيقة التي فرضت على الجميع فرضا ويكاد يصبح التضليل فيها قاعدة لجلب مزيد من نقاط الاعجاب. لطفي حجي مدير مكتب قناة الجزيرة في تونس