14 سبتمبر 2025

تسجيل

ماذا يعني أن تكون صحفيّاً؟ 2-5

05 يناير 2022

3 الحياد الصحفي والمشاعر الإنسانية تقول القاعدة المهنية إن الصحفي محايد عندما يتعلق الأمر بنقل الخبر أو بقراءاته، فلا تأويل، ولا إضافة ولا تحوير في الخبر، هكذا تدرّس القاعدة الصحفية، بها يلتزم الصحفيون الذين يحترمون مهنتهم، غير أن الصحفي المهني المحايد يبقى إنسانا في النهاية يتفاعل مع الخبر فرحا وحزنا، وخاصة عند الأحداث الأليمة، ففي فصول مختلفة من الكتاب يبرز هذا الكم من المشاعر الذي لم يتجاوز المهنية بل قد يعطيها دفعة يحبّذها القارئ والسامع والمشاهد. حرقة الصحفي بدأت مبكرا منذ سنة 1985 حين قصف الطيران الإسرائيلي مقر القيادة الفلسطينية بضاحية حمام الشط بتونس العاصمة. فحينها أعدّ الصحفي الشاب المختص في القضية الفلسطينية بصحيفة الرأي التونسية، ريبورتاجا عن المجزرة كتبه بجوارحه وتعاطفه مع القضية، بما ساهم في نفاد الصحيفة وإعادة طبعها ثانية لأول مرة في تاريخها. لا يبرز بكاء الصحفي في كتاباته، لكنه قد ينجح بأسلوبه في إيصال شحنة من المشاعر للقارئ فينجح في شدّه والتأثير عليه بما يجعله يدرك ألم الصحفي، لكن الأمر في التلفزيون يختلف، فقد تفيض المشاعر فتغلبك دموعك وتسبقك على الشاشة، كما كان الأمر مع كريشان حين قرأ خبر استشهاد الزميل طارق أيوب في غارة أمريكية على مبنى مكتب الجزيرة ببغداد أثناء الحرب الأمريكية على العراق سنة ألفين وثلاثة، أو أثناء وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الذي تربطه به علاقة وثيقة منذ استقرت القيادة الفلسطينية بتونس في ثمانينيات القرن الماضي. قد تدرك وأنت تقرأ الكتاب بكاء بالحروف على حال بغداد والعراق بعد الاحتلال الأمريكي، فالشهر والنصف التي قضاها هناك إثر سقوط بغداد، والزيارات الأخرى الموالية للعراق كانت كافية لتوليد حرقة عميقة عن حال العراق، بتشريد علمائه وإهانة فنانيه، ومعاناة مواطنيه، بما فرضه الأمريكان وقوى إقليمية أخرى استغلت الوضع ودخلت العراق بغاية الانتقام وتجسيد الأحقاد التاريخية. مختلف القصص عبر صفحات الكتاب تبرز أن واجب الحياد، لا يمنع المشاعر الإنسانية من التمظهر، فالصحفي المحايد خبرياً يبقى إنسانا في نهاية المطاف والإنسانية تنتصر على الحياد في كثير من المواقف. 4 الجزيرة والوطن كان تعامل نظام بن علي المخلوع، مع الجزيرة مفرطا في الانتقام منها، باعتماد مواجهتها باستمرار، ومنعها من العمل، فبعد محاولات لتقنين عملها، كان قرار المنع والتشهير الذي وصل حد قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وإغلاق سفارة تونس بالدوحة. خلال سرده لتاريخ العلاقة بين تونس والجزيرة بيّن كريشان الدور الذي قام به حتى تتمكن الجزيرة من القيام بعملها وفق خط القناة الذي يعرض الرأي والرأي الآخر، مبادرات منها ما كان باجتهاد فردي، ومنها ما كان بتكليف رسمي من إدارة القناة الحريصة على أن تكون تونس حاضرة في تغطياتها شأنها شأن الدول الأخرى. غير أن جميع المحاولات فشلت لتعنّت السلطات التونسية وسعيها لفرض توجهها الإعلامي على الجزيرة، بالتنسيق سراً مع مراسل القناة بباريس دون أي اعتبار لإدارة القناة في الدوحة. لقاءات عديدة عقدها كريشان مع مسؤولي الإعلام بتونس لم تثمر أيّة نتيجة لإخلالهم بوعودهم. رواية تفاصيل علاقة النظام التونسي بالجزيرة لم تخلُ من تداخل بين الذاتي والموضوعي في العمل الصحفي، فالصحفي الذي يشاهد على شاشة القناة التي يعمل بها تقارير وحوارات من بلدان عديدة بالعالم سيشعر بالغبن من منطلق وطني، قوامه أن يكون المشهد الإعلامي في بلاده نظير الإعلام في بلدان أخرى ليست أقل منها تمدنا أو ذكاء أو مهنية. لكن ربما الاستبداد، وعدم قراءة جيدة للمتغيرات تجعل الأنظمة المتكلسة تأبى ذلك إلى أن يجرفها أداؤها الإعلامي الكارثي ويخلف ذلك الأداء حسرة في قلوب إعلاميين حلموا بالارتقاء بواقع الإعلام في بلدانهم. وإذا قمنا بتحليل نفسي لتعاطي النظام المستبد مع الإعلام، وسعيه المستمر لتهميش الصحفيين وقهرهم وإن بدرجات، فسنعتبر أن ذلك القهر الباطني الذي شعر به كريشان هو الذي دفعه لإقامة حفل لزملائه بالقناة احتفالا بانتصار الثورة التونسية التي كانت في بداياتها درسا في الحرية والكرامة، وأي درس.