11 سبتمبر 2025

تسجيل

صمت المدافع.. الخروج الثاني لمصر!

09 أكتوبر 2012

يستدعي يوم 6 أكتوبر 1973 تفاصيل لا حصر لها جرت خلال أيام القتال، أو السنين العجاف التي سبقته، وأي فصل لليوم عما سبقه، أو تجاهل حقائق ما تلاه، هو محاولة قد ترضي البعض ولكنها تعجز عن حجب أجراس الخطر التي توقظ العقل والوجدان معا، وتفرض الإمساك بالحساب المجرد وبكل حقائقه. الأمم الناضجة لا تخادع نفسها، ولكنها تضع كشف حساب لما كان وما فعلت وكيف وأين هي في اللحظة الراهنة مما تريد. مثلت حرب 1967 أقصى تطور لمواجهة حركة التحرر العربي، وكان الهدف كسر الإرادة العربية وبوسيلة الحرب، ولم تكن حرب 1973 مجرد حرب لاسترداد الكرامة العربية، ولكنها تفقد قدرها وقيمتها إن غاب عن الإدراك أنها حرب استرداد الإرادة العربية وانطلاقها. كشفت تلك الفترة مقومات الأمة وحقيقة وحدة المصير والعدو المشترك وعمق الصراع العربي الصهيوني بكل أبعادة وكون إسرائيل كيان استيطاني فوق أرض فلسطين، وأن خطره يمتد بعمق الوطن العربي كله، وانه قاعدة عسكرية وليس ارض الميعاد الدينية لليهود، وانه لا يستقيم وجودها والحركة العربية للتحرر من الاستغلال والسيطرة وبناء المستقبل العربي. قال موشي ديان في أعقاب يونيو 67 أنه إلى جوار التليفون ينتظر من القاهرة طلب الاستسلام، ولم يحصل عليه، بل إن الشعب في مصر ومحيطها العربي رفض الاستسلام قبل أن تصمت المدافع. لم يكن قرار حرب أكتوبر73 وليد أيام آو شهور سبقت، ولكن قرار التحرير اتخذ بالفعل يومي 9، 10 يونيو 1976 رغم أنه لم يكن هناك جيش، وكان دخان المعارك لم ينقشع بعد. تاريخ الحروب لا تكتبه المعارك العسكرية مجردة عن واقعها، ولكن لأن الحرب إرادة مجتمع، فالتاريخ يسجل أن المجتمع بأسره كان تحت السلاح. سيسجل التاريخ من قاوم ومن قاتل، ولا يمكن تزييفه بأي ادعاء لاحق. وسيسجل التاريخ من كان مع الأمة ومن كان ضدها. سيسجل الرجال والفكر والعقيدة والتدريب كما سيسجل ملحمة الإنتاج الصناعي والزراعي ووعي الأمة وصبرها، وسيرصد ماذا آخذت السنين العجاف وماذا أضافت. الصراع العربي الصهيوني لم يستقر بعد ولن يستقر طالما أن هناك استيطان صهيوني فوق ارض فلسطين، وطالما لم تنكسر إرادة البقاء العربي، وإرادة التحرر العربي من كل صور السيطرة والاستغلال. صمتت المدافع من حيث الشكل في المواجهة، ولكن من الجانب العربي وحده، والذي وقع فريسة أن حرب 73 هي آخر الحروب. أعادت حرب 1973 شيئا من التوازن في المواجهة مع العدو، ولكنها لم تحل بينه وبين استخدام السلاح وقتما شاء وفي أي مكان أراده، ورأي ضرورة القتل أو الحرب ليحافظ علي ميزان التفوق لصالحة آو يدرأ خطرا يرى احتمال أن يمثل له تهديدا. دخل الإسرائيليون بيروت ودمروا المفاعل العراقي وقتلوا أي عنصر يحتمل أنه يمثل خطر عليهم، أو يمثل معرفة علمية قد تنتج خطرا عليهم، واستخدموا حالة التردي العربي لقضم كل الأرض التي حصلوا عليها بعد 67، وفككوا الحالة الفلسطينية إلى شظايا، لتتحول من حركة تحرر إلى حالة كلام واقتتال، ونجحوا في الدخول إلى المجتمعات العربية، وفصل جنوب السودان عن شماله، بل ونجحوا في تحويل مواقف دول في العالم كانت تميل إلى الحق العربي وتناصره، ولتدفع بالمصالح لتكون أكثر فائدة من القيم والمبادئ، حتى إن هذه الدول كانت تقول وهي تغير من مواقفها، لن نكون عربا أكثر من العرب أنفسهم. قبل أن تنطلق المدافع عام 1973 ويعبر الرجال جسر الدم على قناة السويس، كانت السياسة تحاصر النتائج، وتصل إلى كيسنجر رسالة أنها حرب تحريك، ولنصنع من كيسنجر بطلا جديدا في التاريخ الإسرائيلي بعد بن جوريون. قال كيسنجر "لو أن السادات طلب أي شيء مقابل إخراج السوفييت من مصر لتحققت له مطالبه"، ولكن من يدفع ثمنا فيما يحصل عليه بالمجان؟ ويبقى سؤال لماذا أتيح أمام كيسنجر معلومة التحريك لا التحرير، وبالمجان أيضا؟ الحديث ليس عن خيانة ولكن الحديث عن قصور في الإرادة. توعد كيسنجر بإقصاء البترول العربي من أي صراع ونزع قيمته كعمق اقتصادي للإرادة العربية، وأحاله إلى أرصدة مالية بالبنوك الأمريكية، وما لدى أمريكا يبقى هناك ولا سبيل لخروجه منها. يربط البعض بين حرب 1973 وبين ثورة يناير 2011 وبين كلمة العبور، ويغيب عنهم سمتان مشتركتان بين الحدثين. السمة الأولى أن كلا الحدثين كان نتيجة حركة مجتمع بأسره، وبكل قواه، وكانا تعبيرا عن إرادة وصلت ذروتها بتحقيق الحدث، وأن محاولة رصد الوقائع خلال أزمنة دوام الحدث، وهي تقريبا واحدة (ثمانية عشر يوما)، هي محاولة قاصرة، فالحديث عن التفاصيل يتعدد في كلا الحدثين بعدد البشر المشاركين ومواقع الحدث وزمن المواجهة، وهو انحراف عن دلالة أداء المجتمع كاملا بكامل إرادته وبكل ما امتلك من قدرات. السمة الثانية أن كلا الحدثين على عظمتهما يندرج بنحو أو آخر تحت عنوان "الفرص الضائعة"، وكأن قدر الشعب أن يبني ويصنع الحدث ويضحي بالدم فيه، لتؤول الأمور والنتائج بعيدا عن أهدافه التي أرادها. لم ترق السياسة في 1973 إلى مستوى الإنجاز العسكري على أرض المعركة، وما حدث في يناير 2011 يقارب ذات النتيجة، فقد جرى اختطاف الثورة والانحراف بنتائجها، والفاعل في كلا الحالتين داخلي، ويحمل الجنسية المصرية. كان السؤال قبل أكتوبر 1973 عائد النصر لمن؟ وبقي ذات السؤال بعد يناير 2011 عائد الثورة لمن؟، ومازالت الإجابات ناقصة لم تكتمل بعد، غير أن ثورة يناير 2011 تحمل بحدوثها مدخل الإجابة على سؤال 1973 بأن عائد النصر العسكري ذهب في اتجاهه الخطأ فاستدعى بعد 28 عاما ثورة الشعب بكل قواه ليسترد إرادته ويقيم مجتمع العدل. كان الخروج الأول لمصر في أعقاب 1973 من المعادلة العربية للصراع بدأت مع كيسنجر وزيارة القدس وانتهت بمعاهدة كمب ديفيد. وأعادت حركة الشعب ووحدته ووضوح هدفه في ثورة يناير مصر من جديد إلى المعادلة، وأكدت أن الطاقة الكامنة في هذا الشعب لم يتم استنزافها، وواجهت الأطراف الأخرى في الصراع سؤال ماذا يحدث أن استقرت وحدة الشعب واسترد إرادته؟، وأصبح هدفهم ألا يسمحوا بهذا. الخطر الآن في الخروج الثاني لمصر من جلدها، لتعري الأعصاب واللحم والعظام، وتنزوي مصر على جانب مضاد لإرادة البقاء والتحرر العربية، تتجاوز الوطنية وتجعل الوطن دار كفر، وتتجاوز الارتباط المصيري بالعرب، لارتباط تحت دعاوى تحمل سمة القداسة دون مضمونها. الخروج الثاني لمصر هو نكسة النضال الوطني فوق الأرض، فهل ستغيب مصر عن حركة التحرر العربي في مواجهة العدو الصهيوني، سؤال معلق فوق رؤوسنا بعد 39 عاما من نصر أكتوبر.