27 سبتمبر 2025

تسجيل

القصر الرئاسي

09 أكتوبر 2012

في البحث عن مفردة قصر ـ في الذاكرة لا في غوغل ـ أجدني ذاهباً إلى ماركيز في رائعته "خريف البطريرك": "انقضت العقبان على شرفات القصر الرئاسي خلال نهاية الأسبوع، فحطمت شباك النوافذ المعدنية بضربات مناقيرها، وحركت الزمن الراكد في الداخل برفيف أجنحتها، ومع بزوغ شمس يوم الاثنين استيقظت المدينة من سبات قرون عديدة على نسمة رقيقة ودافئة نسمة ميّت عظيم ورفعة متعفنة". تذكرت ماركيز وروايته التي قرأتها قبل نحو خمسة عشر عاماً عندما اتصل بي الصديق التونسي عادل طاهر ماني زميلي في المدرسة ؛ ودعاني إلى متابعة حصة تليفزيونية على إحدى قنوات البث الفضائية التونسية، تقف على قصر الرئيس التونسي السابق الذي أطاح به الربيع العربي في هبوبه الأول. استطالت الحصة أكثر من ساعة، والمقدم يتجول في قصر سيدي الظريف بين غرفه ومقاصيره وردهاته وساحاته، مشيراً إلى الأثمان الخيالية للتحف وقطع الأثاث والبذلات الرسمية، والخزينة التي تختفي وراء مكتبة وهمية، والإطلالة الرائعة على المتوسّط. كانت ساعة من البهجة البصرية التي يتبعها السؤال العربي: "من أين لك هذا"؟. وتسأل عن البناء الأول الذي اغتر به صاحبه؟ أهو بناء الفرعون الذي طاول به عنان السماء، وأغرى نجيب محفوظ أن يجعله أحد حرافيشه؟ أم أصحاب بابل وهم يزرعون الأشجار في الطوابق العليا؟ أم الإغريق؟ أم صاحب الإيوان الذي تركه هارباً، وجاءت الآيات التي قرأها قائد الجيش المسلم سعد بن أبي وقاص: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} جاءت عبرة لكلّ من يعتبر. كان ماركيز يروي السيرة الذاتية لجنرال عالم ثالثي يحكم إحدى دول أمريكا اللاتينية، وفي المقابل كانت السيرة الذاتية للقمع والديكتاتورية، مجموعة هائلة من الخطايا التي لا تكفيها كلّ مشانق الإعدام، غير أن الجنرال يموت ولا يحس بذلك أحد، ولم تدلّ عليه حتى منسأته، إلا العقبان التي استشعرت الجيفة، وكان يمكن أن يحصّن قصره بالعدل، وأن ينام "قرير العين هانيها". قارن شاعر لبنان الأخطل الصغير بين حياة الرئيس وحاشيته في القصر؛ وبين حياة الشعب البائس قبل قرابة قرن من الآن، ولم يستفد منها الحاكم العربي الذي لا يقرأ إلا تقارير عن شعبه الذي يقلقه: قل للرئيس إذا أتيت نعيمه إن يشق رهطك فالنعيم جهنّمُ أيطوّف الساقي هنا بكؤوسه ويزمجر الجابي هناك ويرزم؟ ربما سيعرف هذا من زار المقطم، ورأى قصر محمد علي ومن جاء بعده، ورأى نفائس التحف، وصورة الخديو إسماعيل بعينين برّاقتين تراقبان الزائر حيثما كان. *** وربما سيعرف صديقي أن قصر سيدي طريف سيكون أحسن حالاً من قصور أخرى كانت صروحاً قبل الحرب في سورية ثمّ هوت، فالحرب الدائرة في بلادي لا تدع حجراً على حجر، فهناك أكثر من بناء أثري معرض للمحو عن ظهر الوجود، غير النهب الممنهج والمزمن للتحف الأثرية. كلّ ذلك التدمير حقن بكراهية سوداء، رغم أن الشاعر اللبناني (أيضاً) إيليا أبو ماضي يقول: "أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيّراً". هو القصر مرة أخرى؛ غير أنه قصر الشاعر.