10 سبتمبر 2025

تسجيل

في فقه البدايات

09 يوليو 2024

غالباً ما يكتشف المرء أن البدايات من كل شيء تقريباً لها طعمٌ آخر، تحمل لذة الاستكشاف، والتطّلع لما هو مخبوء، والأمل بالجميل، مع بعض الخوف من الفشل، وقوة في الحضور والتركيز للتمكن من المهارات الأوليّة وخلق قاعدة متينة يُبنى عليها ما هو آتٍ ! فالبدايات هي النشوة في العلاقات، وهي محاولات الاكتساب والصبر على التعلّم في العمل، وهي التأسيس في التربية، وهي المقتبل في الأعمار، وهي الإشراقات الباكرة المحمّلة بطيب التوقعات في بداية كل يوم. تلك الأخلاط عندما تمتزج تصنع نكهتها الخاصة، لأنها ممزوجة بالنقيض من المشاعر، ولأنها الأساس المتين الذي يُبنى عليه القادم، ولأن الخطوات فيها ما زالت غير متمكنة، لذا فالحضور فيها نفساً وروحاً وجسداً في أوّج تركيزه، والصبر وطول الأمل في توقعات تُنسج، والاندفاع نحو أهدافٌ تُرمى في بالغ ذروته. ولأنها تجربة فيها من الكثير من تعزيز الذات، وبذر البذور لما هو آت، وشدّ الهمّة لتحقيق المرجو والمتوقع، وباختلاطها مع حماسة الإقبال والاستكشاف، فإن بصمتها لا تُنسى، وأثرها باقٍ لا يُمحى فيما هو قادم لأنها بمثابة البذر والتأسيس. لذا من الرشد أن يُدرك المرء صبغة البدايات، وأن يتعامل معها بالحكمة دون اغترار بطول الأمل وشاهق التوقعات، ودون غض البصر عما هو حادث في التوّ واللحظة على ساحة الحياة، حتى لا تسلبك نشوة اللحظات الآنية، ولا تغيب عنك أن تعيش كل بداية بما يليق بها من اللذة والخفة، والتدرّج دون اندفاعٍ يحرمك متعتها، أو يفسد عليك صنعتك في التأسيس لما أردت أن تَعمرّ، أو مراقبة ما يلوح لك من الأمارات الدّالة على صحة مسلكك من عدمه، فلا تنتشي إلى الحد الذي يغيّب عقلك، أو يوهمك بما ليس له أصل ومرجع. لحظة إدراك: قد يجد المرء نفسه بين موقفين متناقضين: يلوم نفسه كم كان غريراً في بداياته، يتغنّى - من وجهٍ آخر - بالبدايات، ويتوق للبواكير، ولكنه قد يغفل أن تلك الاستهلالات هي فاتحة لسلسلة تجارب عمرّت بنيانه على مهل، وأن مذاقها لا يشبه أي مذاقٍ آخر، فهو تائه بين لذة الشعور وندرة الحصافة، ولا حل لذاك التناقض إلا بإدراكه من خلال التجارب، فيوّطن الإنسان نفسه أن يستمتع بغرّة الأشياء دون اندفاع يغيّب عنه الحكمة والتعقّل.