14 سبتمبر 2025

تسجيل

أعلام وأفكار (6)

09 يوليو 2015

اعتمد الإمام الذهبي في محاربة التعصب على عدة قواعد ومن أهم تلك القواعد : الحكم على المنطوق لا المفهوم .يراد بالمنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق، أي: ما كان حكمًا للمذكور، وحالاً من أحواله. والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، أي: يكون حكمًا لغير المذكور وحالا من أحواله: كتحريم التأفيف الدال عليه: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}. فالمنطوق يدل على تحريم التأفف، والمفهوم المستفاد من الاعتماد على اللفظ: تحريم الضرب والسب. فالألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها، فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحًا، وتارة من جهته تلويحًا، فالأول المنطوق، والثاني المفهوم.والحكم على المنطوق يعد أحد المعالم التي اعتمد عليها الذهبي في تراجمه، محل ذلك في ترجمة الإمام البخاري وقد أُخذ بمفهوم منطوق قول دُفع إليه لم يقصده، وكان من جراء ذلك أن حُكم عليه وهجر وتركه بعض كبار المحدثين، يقول الإمام الذهبي نقلا عن أحمد بن عدي "ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل، لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه، فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه، واجتماعهم عليه، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس، فلما حضر الناس مجلس البخاري، قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه. فقال الرجل: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه. ثم قال في الثالثة، فالتفت إليه البخاري، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة. فشغب الرجل، وشغب الناس، وتفرقوا عنه. وقعد البخاري في منزله".فما حمل السائل على مثل هذا القول، إلا امتحان الإمام في مسألة الإجابة فيها لا تزيد طاعته، كما أن الجهل بها لا ينقص علمه، ولكنه الترف العقلي حينا، وضيق الأفق أحيانا، حين تترك الأصول النافعة إلى المسائل الفرعية، ليؤول الأمر بإمام بحجم البخاري أن يقعد في بيته ولا يُنتفع بعلمه، فإلى الله المشتكى.وظهر هذا جليا في ترجمته لابن حبان (354هـ) فقد نقل الذهبي قول عبد الله بن محمد الأنصاري (481هـ) أنهم أنكروا عليه قوله: "النبوة: العلم والعمل. فحكموا عليه بالزندقة، فهجر، وكتب فيه إلى الخليفة، فكتب بقتله" قال الذهبي معلقا "هذه حكاية غريبة، وابن حبان من كبار الأئمة، ولسنا ندعي فيه العصمة من الخطأ، لكن هذه الكلمة التي أطلقها، قد يطلقها المسلم، ويطلقها الزنديق الفيلسوف، فإطلاق المسلم لها لا ينبغي، لكن يعتذر عنه، فنقول: لم يرد حصر المبتدأ في الخبر، ونظير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" ومعلوم أن الحاج لا يصير بمجرد الوقوف بعرفة حاجا، بل بقي عليه فروض وواجبات، وإنما ذكر مهمّ الحج. وكذا هذا ذكر مهمّ النبوة، إذ من أكمل صفات النبي كمال العلم والعمل، فلا يكون أحد نبيا إلا بوجودهما، وليس كل من برز فيهما نبيا، لأن النبوة موهبة من الحق تعالى، لا حيلة للعبد في اكتسابها، بل بها يتولد العلم اللدني والعمل الصالح. وأما الفيلسوف فيقول: النبوة مكتسبة ينتجها العلم والعمل، فهذا كفر، ولا يريده أبو حاتم أصلا، وحاشاه". وهنا يؤكد الإمام الذهبي أن الغرض من المنطوق هو ما يقصده المتكلم لا ما يفهمه السامع.وقد أنكر الذهبي على يحيى بن عمار الواعظ قوله في ابن حبان: "نحن أخرجناه من سجستان، كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين، قدم علينا، فأنكر الحدَّ لله فأخرجناه" فعقب بقوله "إنكاركم عليه بدعة أيضا، والخوض في ذلك مما لم يأذن به الله، ولا أتى نص بإثبات ذلك ولا بنفيه. و"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"وتعالى الله أن يُحَدّ أو يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو علمه رسله بالمعنى الذى أراد، بلا مثل ولا كيف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْئٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ". وإنكار الإمام الذهبي عليهم لأن المنطوق محتمل لأكثر من معنى، والحمل على المعنى الصحيح أولى من غيره.