26 أكتوبر 2025

تسجيل

شبكة الحنين

09 يونيو 2014

كلما تذكرت بلادي، ونشأتي الأولى في مدينة بورتسودان الساحلية، تذكرت أيضا عبارة من الخلاصات، للكاتب الكلومبي العظيم جابرييل جارسيا ماركيز، وردت في سرد الراوي العليم، في رواية الحب في زمن الكوليرا، أحد أعظم الأعمال السردية، حين يصف مشاعر الطبيب الذي عاد إلى بلاده بعد أن درس الطب في أوروبا، لقد فوجئ بتعقيدات الدخول المعروفة في العالم الثالث، من تفتيش دقيق لأمتعته البسيطة، في الجمارك وأسئلة بلا عدد من ضابط الجوازات، وحين نزل إلى اليابسة بعد ذلك، فاجأته رائحة البدائية كلها، وكثافة الذباب، وانتشار الفقر على الوجوه، لتفسد فرحته بالعودة، ويلعن في سره ذلك الحنين المتشابك، الذي أعاده مرة أخرى، في حين كان يمكنه أن يعيش في أوروبا إلى الأبد. الحنين المتشابك، هو بالضبط ما يحسه المهاجرون أو المغتربون عن أوطانهم لسنوات طويلة، لا يعودون فيها إلى بلادهم، إلا نادرا، أو عند الضرورة، شبكة الحنين التي تتشكل وتتضفر، وتأتي في شكل مئة خاطرة ملحة لتقود المهاجر، أو المغترب، طائعا إلى منبعه، وحين كنت أدرس في مصر في ثمانينيات القرن الماضي، كانت تلك الشبكة قوية إلى حد بعيد، تنتج تلك الخواطر الملحة باستمرار، ولعل خيال الكتابة كان يساهم في تضفيرها، حين يبدو لي الشارع المغبر الذي كنت أسير فيه إلى المدرسة، شارعا نظيفا إلى أبعد حد، تبدو البيوت الضيقة، واسعة، الفتيات الكادحات في الشوارع، ملكات جمال يتقاطرن في مهرجان، الكلام الممل الذي يتكرر في بيتنا أو بيوت أصدقائنا، كل يوم، كلاما جديدا ومنعشا، ثم رائحة البلاد التي أتخيلها عطرا رقراقا، يتعطر به كل من يعيش هناك. وحين أعود في إجازاتي السنوية، تصدمني الأختام الغليظة التي توضع باستفزاز على جواز السفر، الشوارع التي تعج حقيقة بالفوضى، البيوت التي لا يمكن أن تسع مساحات الحنين أبدا، والبلاد التي بلا رائحة رقراقة وإنما رائحة المشقة في كل شيء، تنقضي الإجازة وأذهب، لتمسك بي الحيل اللعينة مرة أخرى، وبعد عدة أيام فقط، أقضيها مغتربا.. وأكيد استمر معي ذلك الأمر، بعد أن أكملت الدراسة وعملت في الخارج، وأذكر أنني كتبت مرة عن تعبي وإرهاقي حين أقف في طوابير متعددة، في ذلك المبنى المختص بالمغتربين، وعن الفتاة الضابط التي لم تنجز لي معاملة تأشيرة السفر، قط من دون أن تعيدني إلى طوابير الفزع تلك.لكن هل الحنين في حد ذاته ظاهرة سلبية أم إيجابية؟أعتقد أنه يحتمل أن يكون سلبيا وإيجابيا في نفس الوقت.. الحنين حين يساهم في تلقيح الذهن بخامات الكتابة، للذين يكتبون، يكون إيجابيا بلا شك، وحين يخترع الأرق والكوابيس، سلبيا بلا شك.. لكن تبقى في النهاية تلك الظاهرة التي بلا علاج ممكن.. ظاهرة شبكة الحنين حين تتضفر.