10 سبتمبر 2025

تسجيل

ثم لاح له رجل وقور على جبهته أثر السجود..أين المفرّ؟

09 مايو 2018

يُحكى أنّ رجلاً خرج من الغوطة فارّا بأشلائه، أمّا جلدهُ فقد انحسر عن لحمه وتدلّى على أطرافه، وانطلق يضرب في الأرض ركضاً أحياناً، وحبواً أحياناً، وزحفاً معظم الأحيان، قاطعاً الفيافي والقفار، ومجتازاً الأودية والأنهار، واجتهد في السير ليلاً وبالنهار، حتّى لاح له شبح بيت على قمّة هضبة بعيدة، أوقدت في روحه جذوة الأمل، وألبسته من الفرح أحلى الحُلل، وطرحت عن نفسه آثار الوجل، حتَّى وصل تلكُم الدَّار مع بلوغ التّراقي، مِنْ فرط التّعب والإرهاقِ، وفُتِح الباب مِنْ غير طارق، ثم لاح من ورائه رجلٌ في سمت الشّيوخ، عليه مسحة من وقار مرصود، يحمل على جبهته علامة مِنْ أثر السّجود، كأنّه أحد المشايخ من أصحاب الفتاوى،  وبمجرّد أن اقترب، سأله بلغة عربية تشوبها رطانة ليست بغريبة: ما خطبك يا عربي؟ قال الرّجل: إني فررت من بلد يُقيم النّظام فيه كل يوم حفلات الإبادة، ويوزّع على مواطنيه كعك الرّدى بالبراميل طوال أيّام السنة، وصار بين الفينة والأخرى يوسّع على شعبه في العطاء، احتفالاً بفصل الرّبيع، فيوزّع على المواطنين حلوى السّارين، يذوق وبال طعمها الرِّجَال وَالنِّسَاء والأطفال، وهذا حالنا منذ حملت إلينا رياح التّغيير القادمة من تونس بذور ثورة الياسمين، والّتي أسفرت عن هروب بن علي من تونس، وانقسام السّوريين بين نازح ولاجئ، ومُرْتقٍ إلى ربّ العالمين. قاطعه الشّيخ مستنكراً: أوَ سقط بن علي؟ قال الرّجل: سقط، وهرب إلى السّعودية الّتي خافت سوء الخاتمة، فأسقطت الرّبيع من فصول السّنة، وجعلت كلّ الفصول صيفاً قائظا، خصوصاً في مصر بعد خلع مبارك. قاطعه الشّيخ ثانية: أوَ خُلع مُبَارَك؟ أجاب الرّجل: نعم، لكن حلف الفجّار، سارع لتدارك الأمر، بعدما خافوا انتقال حبوب لقاح الثورة إلى صحراء العرب، فتُنبت فيها أزهار الياسمين، ويُصبحوا على ما فعلوا نادمين، فأخلفوا من بعد مبارك خَلْفا أضاع السّيادة، واتّبع الشَّهَوَات والقناطير المقنطرة من "الرز"، ثم قاموا باستنساخ شبيه له في ليبيا، بعدما اقتلعت رياح الثورة خيمة القذّافي ذي الأوتاد. قال الشيخ: أو سقط القذّافي؟ قال الرّجل: بل وقُتل شرّ مقتلة وبئس المصير، كما شاركه طاغية اليمن نفس المصير، بعدما استمر بعد خلعه في ممارسة هواية الرّقص على رؤوس الثّعابين، حتّى لدغته أفعى حوثية تحمل رأساً نووية من معامل بوشهر، فأصبحت صنعاء رابع عاصمة عربية تلبس العمامة السوداء. قال الشّيخ: أَوَ سقطت عواصم أخرى؟ أجاب الرّجل: نعم، بغداد يحكمها الحشد الشّعبي، وبيروت تحت راية حزب ‎اﷲ ونصر ا‎ﷲ وحفظه، وصنعاء يحكمها الحوثيون، ودمشق تحت حكم الائتلاف الإيراني الروسي النّووي الموحد. وقف الشّيخ الجليل بخفّة لا تناسب عمره، وترك عباءته تنحسر عن منكبيه مُبرزة صفاً من النجوم والكواكب على كلتا كتفيه، ثمّ نزع لحيته البيضاء عن وجهه، ومسح علامة السّجود عن جبهته، كاشفاً عن وجه مألوف، وأنف معقوف، غامت سماء الرّجل من المفاجأة، وصعقته الصّدمة حتّى تيبست عضلاته، وظل جامداً في مكانه، اقترب منه أفيخاي أدرعي حتى كادت تتلامس أرنبة أنفيهما، ثمّ رسم ابتسامته العريضة المزيّفة وقال: ﷽ والصَّلاة والسلام ‎علىٰ ﷴ ﷺ، اعلم أخي العزيز أن كل ما أصابكم من مُصِيبَة فمن أنفسكم، وليست مِنْ إسرائيل، فما إسرائيل إلا رسول قد خلت من قبله الرُّسُل، ودولة قد خلت من قبلها الدّول، ولا شأن لها بتخلّفكم وانحطاطكم، وإن كان حكّامكم قد باعوا أرضكم وتاريخكم ومستقبلكم، فلوموهم هم ولا تلوموها، وأقول قولي هذا وأستغفر ا‎ﷲ لي ولكم. انتقل الرّجل من مرحلة الجمود إلى مرحلة الرّجفان، وبدأت أطرافه تهتزّ كأنّها جانٌّ، وكادت عيناه تقفز من محجريهما، فاستدار نحو الباب وخرج منها فاراً للمرة الثّانية، فاقتحم العقبة، وأسلم رجليه للريح حتى كادت تصل قفاه، ولَم يمض غير بعيد حتى سقط صريعاً، بنيران صديقة.