11 سبتمبر 2025
تسجيلعندما قرأت البرنامج الرئاسي للمرشح الديمقراطي جو بايدن منذ ما يقرب من عام، استرعى انتباهي بشدة مقدمة هذا البرنامج، الذي شدد فيه على استعادة القيادة الأمريكية الدولية التي تراجعت بشدة بسبب سياسات ترامب الانعزالية، وعكس بايدن ذلك أثناء حملته الانتخابية وبعد فوزه عبر تأكيده على أن أولويته هي استعادة الدور القيادي لأمريكا في النظام الدولي، فابدين الذي يوصف بوريث أوباما الشرعي، أو كما يعلق الكثير من المراقبين "الحقبة الثالثة لإدارة أوباما"، كان من أشد الداعمين لتقليص دور الولايات المتحدة في النظام الدولي، أو التخلي عن فكرة "القيادة الاستثنائية" لأمريكا في النظام الدولي. إذن فالسؤال المنطقي هنا، أي قيادة يقصد السيد بايدن؟ وكيف سيستعيدها؟ وما أهدافها؟. عندما يتم الإشارة إلى القيادة الأمريكية في النظام الدولي التي بدأت فعلياً مع سقوط الاتحاد السوفييتي، فنحن بصدد الحديث عن "القيادة الاستثنائية"، والتي تتمحور تقريباً حول ثلاثة ثوابت: دعم النظام الاقتصادي الليبرالي العالمي ومؤسساته الرئيسية، لعب دور شرطي العالم والتدخل عسكرياً وسياسياً بقوة في كل أزماته، وأخيراً استخدام القوة العسكرية دون تردد ضد أية قوة أينما كانت تلوح فقط بتهديد المصالح الأمريكية الحيوية أو الإخلال بقواعد النظام الدولي. فهل هذه هي القيادة التي يقصدها بايدن؟، والجواب بالقطع "لا"، أعطى بايدن تلميحات واضحة بخصوص هذه القيادة المزعومة تتمحور حول التخلي عن النزعة الأحادية لإدارة ترامب وإعادة النهج الدبلوماسي التعددي، وإعادة بناء الثقة في تحالفات أمريكا التقليدية خاصة مع أوروبا. من خلال ذلك، يمكن استنتاج أن بايدن لا يقصد على الإطلاق القيادة الاستثنائية، بل استمراراً للقيادة الدولية من الخلف التي ابتدعتها إدارة أوباما، وعكستها أيضا إدارة ترامب بصور ودرجات مختلفة. من منظور واقعي، تدركه جيداً دوائر صنع القرار في واشنطن، أن فكرة القيادة الاستثنائية لأمريكا في النظام الدولي لم تعد ممكنة ولا مجدية، لاسيما لعب دور شرطي النظام الدولي، فالاقتصاد الأمريكي لم يعد بمقدوره تحمل أعباء هذا الدور، ولا الرأي العام الأمريكي بعد كارثة حرب العراق مستسيغ هذا الدور، ولا طبيعة النظام الدولي الحالي "الشديدة التعقد" مهيأة لضمان فعالية هذا الدور. ضف على ذلك، أن صعود الصين القوى في النظام الدولي قد أصبح الشغل الشاغل للولايات المتحدة، ولعل ذلك قد يكون أهم أسباب التخلي عن فكرة القيادة الاستثنائية، خاصة أن منطق استخدام القوة دون تردد ضد الصين التي تهدد بالفعل دور ونفوذ الولايات المتحدة التقليدي في آسيا، أضحى أمراً شبه مستحيل مع منافس يمتلك قوة عسكرية تضاهى القوة العسكرية لأمريكا. إذن لماذا يصر بايدن على قيادة دولية من الخلف، وما أهدافها ومدى فاعليتها في تحقيق هذه الأهداف؟ على الرغم من تحمس بايدن الشديد لتقليص دور الولايات المتحدة في النظام الدولي، فهذا لا يعنى انسحابها تماماً من المشهد الدولي عبر سياسات انعزالية كتلك التي أتخذها سلفه كانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة اليونسكو، وتوتير العلاقات بشدة مع حلفاء واشنطن التقليديين كالاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية، فضلاً عن سياسات ترامب شديدة التعسف تجاه حلف الناتو. وفى ذلك، يرى بايدن والديمقراطيون عموماً أن هذا النهج الانعزالي لترامب قد أضر بشدة بصورة الولايات المتحدة واقتصادها، بل والأهم من منظورهم هو ترك فراغ كبير في الساحة الدولية استغلته الصين بكفاءة لتوطيد هيمنتها الدولية، فمؤخراً وقعت 15 دولة بينها الصين واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا على اتفاقية "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة"، والتي أتت كنتيجة للفراغ الاقتصادي والسياسي الذي خلفته سياسات ترامب الانعزالية. من هذا المنطلق، نستطيع أن نستنتج، أن الهدف الأسمى لبايدن من قيادة أمريكية من الخلف، هو تشكيل تحالف دولي يضم حلفاء واشنطن التقليديين لتقويض مساحات نفوذ الصين في النظام الدولي، وليس لمحاربة الصين، وهذا ما أشار إليه بايدن صراحة عبر قوله إن مواجهة الصين تستلزم تشكيل تحالفات دولية، يبقى الهدف الثاني، وهو الحفاظ على صبغة "اسمية/ أخلاقية" لدور الولايات المتحدة القيادي في النظام الدولي، وهذا سيتأتى عبر استعادة دور الولايات المتحدة عبر أخذ المبادرة والمشاركة القوية في القضايا الدولية الأكثر إلحاحاً خاصة قضية التغير المناخي. ونستطيع التأكيد في هذا الصدد، أن تحقيق كلا الهدفين، سيكون عبر مساهمة ومشاركة قوية لحلفاء واشنطن، لتبقى الولايات المتحدة "اسمياً" قائداً وداعماً من الخلف لتحالفات تشاركية، وهذا بدوره من المؤكد أن يحقق بفاعلية نوعا ما أهداف الولايات المتحدة، خاصة تقويض نفوذ الصين، لكن في المقابل سيكون مخيباً للغاية لحلفاء واشنطن خاصة الأوروبيين في ظل ما تواجه من أزمات أمنية مستجدة، وعلى صعيد الأزمات الدولية خاصة في مشهدنا الإقليمي التعس، فلن تبدو أية مظاهر لقيادة أمريكية على الإطلاق. ثوابت القيادة الاستثنائية لأمريكا خاصة دور شرطي العالم والانخراط العسكري الواسع في كل أزمات العالم البعيدة عن حدود الولايات المتحدة، واستخدام القوة دون تردد، قد ولت بلا رجعة، فأقصى ما تسعى إليه واشنطن هو استمرار قيادتها على النظام الدولي عبر الدبلوماسية والتعددية والقوة الناعمة مع تحمل حلفائها عبء المشاركة الأمريكية، بالتوازي مع تحويل التركيز العسكري الكامل على الباسفيك بهدف ردع طموحات الصين العسكرية والإقليمية، والانجرار في مواجهة عسكرية "على مضض" معها إذا استدعت الضرورة القصوى ذلك.