12 سبتمبر 2025
تسجيلدخلنا حي وادي الحكمة بعد أكثر من ساعة ونصف من السير البطيء المتوعك في فوضى وزحام مروري لا يطاق، وسائق حافلة مكتوب على ظهرها بخط مكسر: "كل الأيام واحدة يا حبي" تعدّاني بإصرار مجنون، وسبني ببذاءة. متسولون بلا عدد غارقون في اللجة لا يعبأون بالخطر، باعة الأقلام الرخيصة ومناديل الورق، وحقائب القماش المتسخة، يلحون في البيع، والمشردون الذين تضج بهم شوارع العاصمة يحملون خرقا ملوثة، يدحرجونها على زجاج السيارات، ويسألون عن أجر التنظيف.كان النهار على وشك أن يتلاشى. ساعة أخرى، ويرابط الليل ضاخا آلامه وهواجسه، وأفرنجي عن يميني، مستثار، وقلق، ومتحمس لمهمة لا يعرفها جيدا، ووصفتها له بلا تفاصيل كثيرة، وقد اخترع هو في تلك الساعات التي أنفقها بصحبتي في سوق عائشة، ومكتب سمسار العقارات نعمان، الذي استأجرت منه بيتا صغيرا متواضعا ورخيص الثمن في أحد الأحياء، وفي رحلة السيارة، اخترع شخصيات متعددة، فيها حارس شخصي وممرض عند الضرورة ورجل أمن متحفز ساعة الخطر. أراد أن يرتدي تلك الشخصيات كلها وهو يرعى "نيشان" حتى أتمكن من علاجه من الفصام أولا، ومن ثم أبحث عن احتمالات إصابته بسرطان الغدد فيما بعد. قصة تخاطر نيشان معي وإرساله رواية، لم أعد أهتم بها كثيرا في الوقت الحالي على الأقل، ولا أريد أن أشغل بها ذهني وأبحث عن أسبابها، وكيفية حدوثها، وقد أرهقتني استعادتها منذ أمس.ما أردته الآن وبجدية كبيرة، هو أن أعمل على المصير القاحل الذي كتبته، وأحاول أن أزينه ببعض الخضرة، حتى لو قاوم تزيينه، وأصر على أن يظل قاحلا. أردت أن أؤدي ما ظننته واجبا مستحقا، في لحظة تنازل وخيم من كاتب روائي، منتشر في الوطن وغير الوطن، إلى مجرد إنسان عادي يمكن ببساطة أن يكنس حوش جيرانه لو وجده متسخا، أو يحلب عنزة لامرأة مسنة مرتعشة اليدين، أو يحمل طفلا صغيرا على ظهره ويعبر به شارعا مدججا بحوادث المرور. أظن ذلك لن يكون غريبا علي، أعني امتلاك الشخصية المحسنة، فقد فعلتها مرات من قبل. فقط هذه المرة، كان لا بد من تغيير نمط الحياة كلها، لتنجح الشخصية. لقد فكرت في البداية أن أسكن نيشان في بيتي، أن أخلي له إحدى الغرفتين، حيث يوجد فرع للمكتبة الكبيرة، وأضع سريرين، واحدا له، وآخر لجوزف أفرنجي، وبذلك أكون على مسافة خطوات معدودة من بؤرة الصداع.. وغيرت رأيي في لحظة صفاء بعيدة عن التعاطف، حين وجدت الأمر لا يستحق كل هذا.