27 أكتوبر 2025
تسجيلكان يصحو في كل صباح؛ صحيان نائم مستقر، يحتسي كوب شايه بنكهة النعناع، يلتهم طبق الفول، ومربى القرع، والبطيخ، بطريقة عادية. يستجيب لدعاءات التوفيق التي ترددها الزوجة المتآمرة، بابتسامة. يتأنق ويتعطر، وينساب إلى المدرسة انسياب معلم حقيقي. يدرس منابع النيل ومصبه وتضاريس الصحراء بدقة، والرسوم البيانية، وهياكل الحشرات، والضفادع والصراصير، وجزيئيات حلقة البنزين، كما كان يدرسها في أي وقت سابق. يتحدث عن الصوم والصلاة المفروضة والنافلة، ربما استاء من رائحة بخور التيمان القوية، التي تشتعل قريبا من بيته، ربما أزعجته الأدعية والتراتيل التي لا تنقطع، وهستيريا عرافة الشمال التي تعرق في وسط متعته، ووجوه أعضاء الوفد التي ذكرته بوجوه مأزومة شاهدها في حلم مأزوم، وربما استغرب من ذلك الصمود الغوغائي العنيد، لعدد من الغرباء جاءوا من الشمال ليستعيدوا مفقودا، هو أصلا لم يكن، وعندما يشتد الزحام، خاصة في أمسيات اليباس والملل، يضطر أن يصرخ، ولا يسمع أي صدى لصرخاته. عبده الشبعان. عبده البكاء. عبده ناكش أنفه. عبده البغل. عبده الكسير الحظ.. ألقاب يسمعها تردد، ولا يعرف أصحابها، لم تكن ذاكرته المحبوسة بإتقان عند بديعة حساب، تأتي إلا غباشا مستهتر التذكر، كان يحيا بالذاكرة الحاضرة، المطعمة بماض شحيح، مهاجرا شماليا يمسك بالإصبع الكبير للهجرة، ومدرسا ابتدائيا، وصهرا لإحدى العائلات المحلية، وعاشقا فذا لامرأة مزركشة، جائعة العواطف، ونادما على سنوات جدباء، لا يعرف أين أنفقها، ولا كيف ندم عليها. في المدرسة؛ أخبره بعض التلاميذ الأشقياء، مرارا بالمكيدة كلها، منذ أن اقتحم الغشيم قيلولته، إلى الآن، أخبروه بالعربي الفصيح، وتهتهة اللسان، والرطانة القبلية، وحروف الإشارة، وعاقبهم بتلذذ، بأن أوقفهم في طابور عقابي لعدة ساعات، ليظل النص المكتوب محكما بلا ثغرة. أخبره الزملاء أيضا بالضغينة من ألفها إلى يائها، ومن طفولتها حتى ابيض شعرها، قاطع صحبتهم وازدراءهم، حتى يحتفظ النص بتماسكه، وقال له مدير المدرسة في أحد أيام انفلات الأعصاب، التي تكالبت على البلدة بغزارة، ودعمت من انسياب المشاكل الزوجية، وارتفاع معدلات العنوسة والطلاق، وبقاء المدير نفسه أعزب، حين طلق امرأته، بعد زواج مديد: إن القرار بيده، ويستطيع في أي لحظة، أن يفر بعقله الجديد المسحور، إلى الشمال، ليستعيد العقل القديم، على راحته، وسط أهله وعياله، وبمساعدة خبراء أكثر حنكة من هؤلاء الذين جاءوا، فاستغرب بشدة: أي عقل جديد؟، وأي عقل قديم؟ وأي عيال وأهل؟. أخبره بعض التجار في السوق بعد أن تشجعوا، وقهروا الخوف، وأخبرته الطرق التي يمشي فيها، كلها، وذهب به كثير من المتطوعين والمرتبكين، ومن صنفوا أنفسهم رعاة للصالح العام، بعد فوات الأوان، ذهبوا به إلى بيت بديعة حسّاب، في انزوائه البعيد عن تضاريس البلدة، نكاية في تلك التضاريس، اقتربوا به بحذر، وبالقدر الذي يسمح لعينيه برؤيا تحمل حدا أدنى من الضباب، أشاروا له إلى مطبخ الهوس الذي طبخت فيه الضغينة، وضغائن أخرى عددوها له، وملأت عدة صفحات من الألسنة المتهيجة. قالوا: يا أستاذ، لديك من الأغراض في ذلك المكان ما لدى العمدة من الفدادين في أرض البلدة، وما لدى الوطن من الموتى في الحروب والمجاعات، وما لدى القمر من الضياء وهو بدر، فما صدق أبدا، أغتاظ، ولم يعد يلقي السلام على أحد، أو يرد إن حياه أحد.