12 سبتمبر 2025
تسجيلاستمعت إلى حوار مع الدكتور محمد المخزنجي يربط فيه بين مشاهداته وتأملاته في الكون والحياة وبين الواقع الآن في مصر وانتهيت إلى أنني صديق له من طرف واحد، كما تلك العلاقة الحميمة التي تنشأ فيها المشاعر من طرف واحد ولا تملك وسائل إيصالها إلى الطرف الآخر، ورأيت أيضا في ثنايا حديثه إلى أي مدى تملك مصر نواة عقل يمكن تسميتها بالنواة الناعمة، موجودة وليست وليدة اللحظة وكانت هناك دائما منذ زمن الفلاح الفصيح أو ما قبله في رؤية الكون والخلق والتعامل مع الطبيعة وحركة الأفلاك ومواضعها في زمن الفراعنة. جمعني والدكتور محمد المخزنجي ما رواه عن قدوم العيد عليه وهو في معتقل القلعة لا أعلم الفارق الزمني بيننا ولكنني عندما اعتقلت في فبراير 1972 من الجامعة إلى معتقل القلعة كان موعد عيد الأضحى، ولم أدرك قدوم العيد حينها إلا بوصول تكبيرات العيد التي يرددها المصلون بعد كل صلاة في يوم عرفات وطوال أيام التشريق، وصولها إلى مسامعي من مساجد ميدان القلعة، يومها أدركت أن العيد يمر بوطني، ووجدت الدكتور المخزنجي يربط بين وجوده في معتقل القلعة وبين سماعه لأغنية "الليلة عيد" وما تثيره من شجن في نفسه كلما استمع إليها، هكذا وجدت بيننا مشتركا يفرض الصداقة وعززه ما سمعته منه ورؤيته حول ما يجري في مصر. وتضيف الوقائع الجارية في مصر الآن ضرورة التأمل والخروج من الصندوق ومحاولة إعادة قراءة لما يجري، وحتى لا يكون حديثنا مجرد تأس ونواح أجد واجبا أن أشير إلى عنصرين مضيئين في المشهد، هما عنصرا الشباب والنواة الناعمة كلاهما يؤكدان أن مصر ستمضي بخطوات واثقة لن تنحرف ولن تنجرف ولن يستطيع الخوف أو البطش أو عناصر فقدت دليل العمل الوطني أن يحاصروها أو يحولوا بينها وبين تحقيق غاية التغيير للمجتمع باستراتيجية "الخبز - الحرية - العدالة الاجتماعية". من يمض في شوارع مصر وميادينها يجد من حوله لافتات تحمل أسماء جميعها تطلب أن تكون نوابا للشعب، ولكن عناوين الكتاب لا تحمل سمات مضمونة ومحتواه، بل تتجاوز الاحتياج الوطني والمعاناة الشعبية بمقولة إن مجلسا منتخبا هو الحل. ولن ندخل في طبيعة العملية الانتخابية ذاتها ولا من أي معين جاء المرشحون، ولا إلى أي رؤية ينتمون، ولكن المسألة التي ستظل عالقة بالثورة وحاجات الشعب، هي أن مضمون أهدافهما قد غابت وصار السعي إلى السلطة (حتى التشريعية) قادمة من مجهول يفرض نفسه بعلو الصوت أو الغلو في القول أو نفي الآخر وإقصائه، أو استبدال الخصومة مع نظام الفساد الذي قضى عليه الشعب بخصومة جديدة مع المجلس العسكري وكأنها "دون كوشتية" جديدة تصارع طواحين الهواء فلا هي أقامت الدولة ولا هي أرضا قطعت. وأمر المجلس العسكري تحدثنا فيه كثيرا من قبل، ولكننا في هذه اللحظة نقول لهم: ألم يذهب المجلس في قراراته إلى ما أردتم بأن تكون الانتخابات أولا؟ وأن الدستور يجب أن يسبق أي تمثيل نيابي، وأن رؤية اقتصادية واجتماعية وسياسية يجب أن تسبق حتى الدستور؟. سألتني أسرتي من ستنتخب؟، وحاولت التهرب من الإجابة، وقلت إن الانشغال يحول دون قراءة المرشحين، ونحن كأسرة موزعون على ثلاث دوائر، ولكن السؤال أفشى حقيقة ما يدور بالأسرة المصرية، وأنهم مهتمون بالأمر، وأنهم أيضاً يحاولون الاختيار، والابن كما جيله يسعى إلى طباعة أوراق تدعو الناس إلى التصويت وانتخاب ممثليهم، ولكن السؤال الحائر لديهم ماهية مرجعيات المرشحين وماهية أسس المفاضلة بينهم. رغبة في المشاركة تصطدم بحقيقة الاختطاف الذي جرى للثورة وتأجيل أهدافها واستراتيجياتها لحين الاستيلاء على السلطة التشريعية والتي لن تؤدي بأي حال إلى تشكيل السلطة التنفيذية (الحكومة) على قاعدة الأغلبية البرلمانية. أثار الإعلان عن وثيقة المبادئ الدستورية الحاكمة أو الأساسية أو أي ما كان مسماها لغطا كثيرا داخل الأحزاب وعناصر الحوار السياسي في المجتمع، وتجاهل جميعهم أن مبرر الإعلان الدستوري كان محاولة لوجود حل وسط بين الدستور أولا والانتخابات أولا، ولكونه ينشأ تعبيرا عن القوى الآنية في المجتمع المعبرة عن نفسها في حوار الطرشان فيما بينها وبعيدا عن القوى الاجتماعية الحقيقية في الوطن ودون اعتبار للحاجات الشعبية، فقد تضمن أمرا يخص القوات المسلحة في شأن ميزانيتها، ويخص دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة كحكم على أمر مشروع الدستور بالقبول أو الاعتراض، وبالوثيقة محددات اختيار لجنة وضع الدستور وذلك كله بمجموعه يمكن تشبيهه ببناء على غير رؤية أو أساس فالمقصد نبيل، أن نضع لمصر دستورا جديدا وأن نتوافق عليه وأن نتحاور حول محدداته وأن نحدد خط السلطة داخل الوطن وليس مجرد آليات تداولها، ولكن النتائج لا تتوافق ونبل المقصد أو حتى إيجاد نقطة وسطية. ويتضح أن كلا من الانتخابات ووثيقة المبادئ الحاكمة وتصور لجنة وضع الدستور، يتم خارج المنطق وبلا رؤية حاكمة وبلا حوار مجتمعي، والمضمون اللفظي أو الإجرائي يؤدي إلى سقوط في الفوضى بلا رادع ولا مرجعية. عندما كانت الهزيمة العسكرية عام 1967 جرى تقنين لدور الجيش والمؤسسة العسكرية وكان يومها يجب الأخذ بما هو علمي ومتعارف عليه حتى تستطيع المؤسسة العسكرية أن تؤدي دورها في إزالة آثار العدوان واسترداد الإرادة الوطنية ويومها أيضاً لم يكن ممكنا للعتاد والرجال بالقوات المسلحة أن يحققوا الهدف دون أن يكون المجتمع كله خلفهم بكل أدوات الإنتاج فيه وبكل البنائين من أبنائه وبخيرة شبابه كأساس لتكوين جنود الجيش المصري من حاملي المؤهلات العليا، والتي خاضت الحرب بجيش المليون. وضعت ثورة 25 يناير الجيش المصري على المحك، وأثبت أنه جيش ينتمي للشعب وأن السلاح في يده لا يواجه الشعب، وإذا كان واجبا استحداث أمر في العلاقة بين الجيش والدولة، تأسيسا على نظام مدني مستهدف، فلا سبيل إلى ذلك بغير حوار مجتمعي متخصص لا تدخل فيه الشعارات قيدا على الحوار ولا الادعاء بالمعرفة بديلا عن دراسة تجارب العالم وقواعد العلاقة بين السلطة السياسية بطبيعتها القابلة للتداول وبين المؤسسة العسكرية النواة الصلبة للمجتمع بطبيعة بنائها ومهامها ومسؤولياتها. التخلي عن هذه المسؤولية بمجرد فقرة في وثيقة غير كاف، بل مهين لمعنى وقيمة الوطن وجيشه. المطلوب هو حوار وسواء صدرت وثيقة تتضمن المعنى قبل الانتخابات أو بعدها، فهي يجب أن تصاغ بناء على رؤية علمية وموضوعية تتضمن كل آليات التدقيق والتوثيق بالتاريخ والواقع وطبيعة ما ننتقل إليه، وليس بأسلوب الفقرات "المسلوقة"، دون إنضاجها. المفارقة الثانية تجري في الانتخابات، فلن نتحدث عن قانون جرى صياغته والاستجابة لضغوط لتعديله من أحزاب ليست تعبيرا دقيقا عن الشعب والوضع السياسي في الوطن، ولكن الحديث عن أمر يخص قرار محكمة بحل الحزب الوطني السابق وقرار بحل المجالس المحلية في المحافظات، وكلا القرارين كان يعني أن هناك مشاركة من نوع ما بين عناصر من هذه التشكيلات مارست الفساد السياسي والتزوير والتربح من وجودها، لا نقول جميعهم، ولكن كان الواجب أن يجري عزل من ساهم في جرائم النظام السابق، وضاعت الفترة الانتقالية دون إعمال ذلك، ومن غير المقبول أن يحاكم رأس السلطة ومكتب الحزب السياسي وتترك الأدوات الفاعلة طليقة، تسعى إلى المجالس النيابية بمباركة قانون الانتخابات الحالي، وبواسطة عشرة أحزاب من أعضاء سابقين بالحزب الوطني، وتواجد لأعضاء منه في الأحزاب القائمة التي كانت محسوبة على المعارضة، وبالتالي طرحت عناصر ممن يسمون بالفلول نفسها في الانتخابات القادمة والمتوقع أن يكون لهم وجود في المجالس النيابية بعد الثورة لتنفيذ إرادة الثورة والشعب!!، فهل هناك عبث وفوضى أكثر من هذا؟. يبقى دائما في مصر أن الأمل يرتبط بوضوح رؤية لشعار الثورة "الخبز - الحرية - العدالة الاجتماعية"، وأن هذه الرؤية ترتبط في تحقيقها بحيوية أجيال شابة جديدة تستدعي الأمل وتمسك به وتحرص عليه وترتبط بالنواة الناعمة في قلب مصر التي تجدها حيثما حللت عندما تكون صادقا حتى وإن اختلفت وجهات النظر، فبمجرد أن يلمسوا الصدق في الأداء والقول يقبلون بما يطرح عليهم لصالح الجميع ودون الوقوف عند حاجات ذاتية، معبرين في هذا عن وعي كامن يدرك وحدة المجتمع ويتجاوز الذات. في نهاية حديث الدكتور محمد المخزنجي، الصديق من طرف واحد، أشار إلى قرية في جنوب السودان هاجمت النمور والفهود أهلها، فاجتمع أهل القرية على قتلها وأبادوها، وبموت النمور بقيت القرود التي كانت طعام النمور المفضل، فهاجمت القرود القرية وأجبرت أهلها على الرحيل، من هي النمور التي يقتلونها الآن؟ وما هي القرود التي تجبر أهل القرية على الرحيل؟ سؤال يكاد يجد إجابته فيما هو معروض علينا للاختيار من بينه. ولكن شعب الثورة وشبابها يملكون القدرة على الحياة والحفاظ عليها والتضحية بالحياة ذاتها، لتحقيق استراتيجية الثورة في "الخبز - الحرية - العدالة الاجتماعية".