14 سبتمبر 2025
تسجيلقاعدة قرآنية عامة تكررت تصريحا وتضمينا؛ لتؤسس لمجتمع متكامل أو متوافق، يعتمد الإحسان في القول كقاعدة للتفاهم والتحاور، بعيدا عن الألفاظ النابية أو العنتريات الزائفة. القول الحسن ليس شعارا يروى ثم يطوى، ولا خصيصة يختص بها قوم دون آخرين، بل هو أصل في تعامل المسلم مع غيره. والمتتبع للقرآن يجد هذا المعنى شديد الوضوح كثير التكرار، فالله قال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] وعند الحديث عن مجادلة أهل الكتاب قال الله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]. ولا يقتصر القول الحسن على اللفظ المجرد بل يتعداه إلى الحسن في هيئة، ومعناه. فأما الهيئة فتتضمن: اللطف، واللين عند القول وفيه وبعده. وأما المعنى: فلا يكون إلا خيراً، لأن كل قولٍ حسنٍ فهو خير، وكل قول خير فهو حسن» وقد أحسن أحمد الكيواني حيث قال: من يغرس الإحسان يجنِ محبة دون المسيء المبعد المصروم أقل العثار تفز، ولا تحسد، ولا تحقد، فليس المرء بالمعصوم إننا في أشد الحاجة إلى تفعيل تلك القاعدة في مجتمعاتنا وأنديتنا ومجالسنا، هكذا أراد القرآن. ولعل في ضرب الأمثلة ما يجلي المعنى: في حق الوالدين قال الله مخاطبا الأبناء {وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} فلم يكتف القرآن بعدم النهر مع أنه متضمن للإحسان، بل أمر بعدها بالقول الكريم ليؤكد ويرسخ المعنى المقصود. وفي حق المحتاج قال الله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} والسائل هنا لا يقتصر على الفقير وفقط، بل يدخل فيه كل ذي حاجة أرادك أو أراد منك شيئا ولو كان مشورة، هنا يأمرك الله ألا تنهر أو تزجر؛ بل تتفضل بالقول المعروف. ولقائل أن يقول: إن الإحسان قد يجرأ العوام وأصحاب الحاجات! وهنا يأتي القرآن مذكرا بصفات عباد الرحمن ومنها قوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]. يقول ابن جرير ـ رحمه الله ـ في بيان معنى هذه الآية: «وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب» وهم يقولون ذلك «لا عن ضعف ولكن عن ترفع، ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع» وهذا ما لا يقدر عليه كل الناس، وهنا واقعة حدثت مع الإمام مالك - رحمه الله – وقد حكم على شاعر فلم يرقه الحكم؛ فتهدده بالهجاء! فقال له مالك: «إنما وصفتَ نفسك بالسفه والدناءة، وهما اللذان لا يعجز عنهما أي أحد، فإن استطعت أن تأتي الذي تنقطع دونه الرقاب فافعل: الكرم والمروءة» إن السنة زاخرة بفضل القول الحسن وأثره، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ويعجبني الفأل، قيل وما الفأل؟ قال الكلمة الطيبة». وقوله: «اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة»، وقوله: «أفش السلام، وأطب الكلام، وصل الأرحام، وصل بالليل والناس نيام تدخل الجنة بسلام». وكذلك قوله «إن في الجنة غُرفًا يُرى ظهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فقال أبو موسى: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات لله قائمًا والناس نيام». فإن عجزت عن القول الحسن بعد ذلك فأمسك لسانك عن القول السيئ، وتذكر قول الله: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِى بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) وقول شداد بن أوس رضي الله عنه: (ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها) وقول ابن دقيق العيد: (ما تكلمت بكلمة ولا فعلت فعلا إلا أعددت لذلك جوابا بين يدي الله تعالى).