10 سبتمبر 2025
تسجيليمكننا أن نضع عنوان "ليس هناك مستحيل" لوقائع اقتحام قناة السويس وخط بارليف الذي أقامه الإسرائيليون على الشاطئ الشرقي للقناة بميل حاد يقارب الحائط الرأسي (80 درجة)، وخطة إشعال مياه القناة بالنابالم، وهو ما تجاوزته القوات المصرية المهاجمة، بأبسط الحلول. واجهت النابالم، أولا بالمعرفة أن هناك أنابيب، وحددت أماكنها وخطوط الإمداد، وتم سد الفتحات على طول 175 كيلومترا، وتدمير خطوط الإمداد، وهو ما تحملت مسئولية تنفيذه الضفادع البشرية ومجموعات الصاعقة خلف خطوط العدو. وبخبرة العمل في السد العالي استخدمت أسلوب التجريف، لعمل فتحات لعبور المدرعات والدبابات، وإن كان عمل التجريف قامت به سرايا من المهندسين، غير أن اقتحام المشاة للمانع ذاته ابتداء وتدمير النقط الحصينة للعدو، كان ضروريا لتتمكن عناصر المهندسين من إتمام عملها لتدخل المدرعات إلى سيناء. كانت تقديرات خبراء تقول إن خط بارليف لا يمكن اقتحامه بغير ضربة ذرية، والآن وبعد أربعين عاما صار التخطيط والعمل لتحويل المستحيل إلى ممكن هو واحد من أهم الدروس في المعاهد العسكرية. لا يتصور عاقل أن تحويل المستحيل إلى ممكن تم بغير إرادة، وعبر زمن طال لسبع سنوات، وكان هناك رجال وكان هناك شعب. ولم تكن نزهة ولكن كانت هناك مرارة وشهداء وعرق وعالم معاد وأرض تحت الاحتلال وكرامة مجروحة، وحالة من التوحد بين الأمة وبين الهدف. والأمم تنمو وتنضج عندما يكون الرأي للعقلاء وبينهم، والأمم بالعقل والأمانة والمعرفة تستخلص من النكسات دروس النصر. واحد من أهم دروس النكسة هو تحديد العلاقة بين الجيش وبين الدولة، فالجيش عند الشعب هو رمز للوطنية، وليس كما قال أحدهم ــ وهو عضو في لجنة صياغة الدستور المصري الآن ــ بأن المواطنة هي أساس العلاقة بين "السكان" والأرض، أي كل بتكوينه ولونه، وإن الوطنية مرادف لحكم "البيادة". فرضت نكسة 1967 مراجعة علمية للعلاقة بين المؤسسة العسكرية وبين القرار في الدولة، ودعمت حرب 1973 هذه الحقيقة، بأن قرار الحرب والسلام للقيادة السياسية، وأن المهمة الاحترافية للجيش تبدأ بعد القرار، ويجب أن ترفع يد السياسة عن إدارة العمليات العسكرية. ولم تغفل الدروس حقيقة أن الجيوش في العالم الثالث هي القوة المنظمة الوحيدة داخل هذه الدول، وأن التحول إلى واجبها الدستوري يعني أنها جيوش الشعوب وليست جيوش الأنظمة. المفارقة التي نحياها في مصر الآن، أن العقل تشظى، ويكاد يفقد التاريخ معناه بعد أربعين عاما من حرب 1973، وشظايا العقل تكاد تسلب التاريخ محتواه ومضمونه، بل إن حالة التشظي هذه بلغت أن جماعة من المصريين تحاول أن تسلخ الجيش من وطنه، وتستعديه، وتدعي الولاية عليه وعلى الأمة وعلى التاريخ، حتى إنك تسمع منهم ما هو أشد نكاية بالوطن وتاريخه مما يقوله أعداؤه. ولكن على التوازي مع ذلك يبدو أن العقل المصري يتجاوز بالوطن أفعالا أقل ما توصف به أنها جرائم، وأقوال يمكن وصفها بالحرب النفسية، وحالة من الصبر انتابت الشعب ومؤسسات في الدولة تعني إدراك حجم الأفعال وعجزها عن التأثير بل إنها أدركت أن بعد يناير 2011 لم يعد هناك من يملك اليد المطلقة للتصرف، ولكن يونيو ويوليو 2013 تفرض وضع الأمن القومي وكيان الدولة وتماسكها أولوية أولى على جدول أعمال الجميع. ويبدو أن المسار في مصر يعاند كل محاولات العنف ويعاند موجات الحرب النفسية، فتاريخ مصر عبر آلاف السنين هو تاريخ مواجهة مع أعداء من الخارج، وما أن تنتهي المواجهة بدحر العدوان حتى تبدأ رحلة البناء. خلال الأيام الماضية تردد في مصر صدى المصارحة والمكاشفة أربع مرات. كانت البداية من الأستاذ محمد حسنين هيكل، وكان موجزا وحاسما، عندما تحدث عن خطاب الحقيقة، ومن يملكه، ووجوب أن تتم مكاشفة الشعب بكامل الحقيقة. ولم يترك الأمر عند هذا الحد، بل عبر عما يدور في صدر المواطنين، خاصة عند الحديث عن مرشحي الرئاسة المحتملين مما هو مطروح على الشعب، ووصل إلى نتيجة مؤداها أنه لا يصلح منهم أحد، مقدما لذلك باحترامه للجميع، فما تحتاجه مصر لابد أن يملك المعرفة، ولديه القدرة على مواجهة التحديات، وكأننا بالرجل يقول بمعنى آخر إن مصر لا تحتمل تجربة رئاسة فاشلة أخرى. ولم يكد يمضي يومان على هذا الحديث حتى كانت مفاجأة الحقيقة ترد على لسان الدكتور الشاب عصام حجي المستشار العلمي لرئيس الجمهورية في إجابته على سؤال هل هذا المنصب له احتياج أم أنه نوع من التجميل، ليجيب كصدمة كهربائية كما هو حال العلماء عندما يمسكون الحقيقة ولا يزينون أو ينافقون ويقول: "إن المشهد قبيح جدا ولا يجدي معه التجميل!!"، "التحديات التي نواجهها لا يمكن أن نحلها دون أن نفهمها، ولن نفهمها بغير العلم والمنطق، والحقائق التي نرصدها على الأرض لا تتفق وأي منطق"، "المرحلة الانتقالية من دون علم وتعليم هي الانتقال إلى المجهول"، "والحديث عن الديمقراطية من دون تعليم هو وهم"، "الحديث عن العلم والبحث العلمي ليس تشبه بالشرق أو الغرب، نريد فقط أن نتشبه بالبني آدميين!!"، "التعليم والبحث العلمي في مصر هو المشروع القومي"، ويمضي محددا أن مشاكل مصر هي الجهل والفقر والمرض وأنها مشاكل تشمل ما يزيد على %50 من الشعب، ولا يجدي معها الحديث في السياسة ولا حديث الحناجر، والتغير في سلوك المصريين مرده هذا الثالوث فليس عند %50 من الشعب ما يخسره، فصار الانفعال والعنف السلوك العام الآن. ويضرب أمثلة عديدة من المياه إلى الغذاء إلى المناخ وجميعها لا يمكن مواجهتها بغير العلم، ويتطرق إلى الاقتصاد، "نحتاج للانتقال من اقتصاد يقوم على الموارد إلى الاقتصاد المعرفي، الذي يقوم على الصناعة"، ويشير إلى أن الصناعة الأساسية في المجتمع المصري هي صناعة الزواج، واحتياجاتها هي مجال الاهتمام الأول ونشاط اقتصادي رئيسي. ويقول الدكتور الشاب في وكالة ناسا الأمريكية للفضاء "ناسا ومصر مكانان متشابهان جدا، كل شيء نعمله في ناسا في مقاييس أي إنسان عادي مستحيل، أن نصل للمريخ، أو نهبط على النيازك، أو نتحكم في رحلات الفضاء، كل ذلك مستحيل ولكنه تحقق، والشبه الثاني أن الإمكانات المتاحة لناسا قياسا على مهامها ومشاريعها تعتبر فقيرة جدا بالنسبة لما يجب توافره، وهكذا مصر، فالتعليم والبحث العلمي المشروع القومي يبدو مستحيلا والإمكانات تبدو ضعيفة، ولكن يجب أن نحققها وفي مدى زمني سريع ومحدد". خطاب الحقيقة، وتحقيق المستحيل، كانا رسالتي المسئولية الأولى. ويعقب ذلك خطاب لرئيس الجمهورية عدلي منصور، كان فيه الرجل يقول حديث الحقيقة عن التاريخ، ويربط بين الحاضر وإرادة استرداد الكرامة من بعد 1967، وكان أن أصدر قرارا بمنح اسم الفريق أول محمد فوزي وسام الجمهورية ونجمة الشرف العسكرية، وهو الرجل الذي قاد عملية إعادة بناء القوات المسلحة وقاد حرب الاستنزاف حتى وضعه السادات في السجن في مايو 1971، فأعاد للرجل الاعتبار. لم يتوقف عند هذا الحد بل أعطى إشارة البدء في العمل لإقامة محطة الطاقة النووية في الضبعة، ووضع محددات إقامة مشروع تنمية قناة السويس في إطاره القومي على الإطلاق. ويمضي الرئيس المصري لحديث عن فلسطين، يعيدها إلى قلب الاهتمام المصري بعيدا عما أصابها من أثر ما تردد عن ادعاءات لحماس، ويتحدث عن أرض جرى احتلالها بعد 67 كاملة والقدس الشرقية، وهو حديث طال غيابه عن الخطاب السياسي المصري. ويخرج تسجيل لحديث للقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع مع عدد من الضباط، حاولت جماعة الإخوان أن تجعل منه أداة اتهام للرجل، فجعلت منه كاشفا لرؤية تمسك بحقيقة نتائج يناير 2011، كان الموضوع تناول الصحافة والإعلام للقوات المسلحة، وكان رد الرجل "بعد يناير 2011 لم يعد هناك من يملك أن يقول لأحد هذا مسموح وهذا ممنوع، هناك تغيير في العلاقات داخل المجتمع، ويجب أن تتغير أساليب التعامل، وإن بناء الجسور بين مكونات المجتمع يجب أن تأخذ وقتها ويجب أن نتفهم ذلك، كان حديثا يؤكد ما كان ينقل عن الرجل ممن التقوه بعد يناير 2011، ووعيه بالمتغيرات التي تجري، وأكده موقفه في يونيو 2013، بل يمكن القول أكده إدارته للأزمة التي واجهتها مصر منذ يناير حتى اللحظة. ويكلل الرجل في 6 أكتوبر كل ما يحدث في مصر باستدعاء مسئولية العمل من كل المصريين لأن مصر تستحق هذا وإن السلاح الرئيسي للإنجاز والتطور هو الصبر، ويعيد إلى الخطاب السياسي المصري معنى الانتماء القومي لمصر وارتباط المصير والمصلحة بين العرب جميعا، وهو معنى غاب بعد 1973، ودخول كمب ديفيد على علاقات مصر بالعرب. علامات وسط دماء تسيل على الأرض المصرية حيث بلغ ضحايا يوم 6 أكتوبر 2013 أكثر من 50 مواطنا غير مئات من المصابين، وكأنه بالفعل هنا في مصر شعبان، شعب يريد البناء والأمن، وشعب يناشد أمريكا والناتو التدخل، ويرى أن كل المصريين وكل المؤسسات والجيش في حالة انقلاب عليهم، ولا يقولون لنا من هم ولا يكشفون لنا ما الذي قدموه للشعب غير الفوضى والكذب والانفلات الأمني واستدعاء الأجنبي. هذه العلامات سبقها إعلان دستوري تكميلي بأن مهمة لجنة الدستور هي إعداد دستور جديد لمصر، وحسم الجدل من حول مهمة اللجنة، تعديل للقديم أم جديد. وتبقى مهمة وجب الاقتراب منها وبعمق، وهي مهمة التطهير للدولة من آثار 30 عاما مع مبارك، وعام تحت حكم الإخوان. ويتناقل البعض الآن أن ترشح القائد العام للقوات المسلحة المصرية لمنصب الرئاسة لم يعد اقتراحا، ولكنه في إطار الصحافة والإعلام هو خبر، فهل تحمل الأيام القادمة تأكيدا أو نفيا؟، أعتقد أنه سيبقى الاحتمال الأوفر حظا حتى إغلاق باب الترشح لمنصب الرئيس المصري القادم.