12 سبتمبر 2025

تسجيل

سفر وكتابة

08 سبتمبر 2014

كانت الحكايات الغريبة كلها في شارع "بكيت بنتاج" في وسط المدينة، شارع العرب كما يسميه العرب أنفسهم، حيث المطاعم الشرقية والغربية، ومولات التسوق العملاقة، ومحلات التدليك التي يمكن أن تنقلب في أي لحظة إلى جحور أفاع، كان المتسولون يلونون أجسادهم بألوان قوس قزح، السواح يترنحون بثقل الامتصاص القوي، وكاميرات الكانون والنيكون والياشيكا، وعازفو الأكورديون والساكسفون، والجيتارات الممزقة، يقيمون احتفالات ضاجة في الأركان، وإشارات المرور الحمراء، والناس متجمهرون أو ماضون في طريقهم.لقد فتنت كثيرا بالمقاهي المتعددة، تمنيت أن أدمن أحدها وآتي يوميا لأكتب فيه، لكن ذلك لم يحدث مع الأسف بسبب انشغالي أثناء الرحلة. كان كل شيء موحيا وكل شيء يدفع للكتابة.عدت بذكرياتي تلك إلى بلادي مبتهجا، أحس بفوران في الدم، وحموضة في المعدة، وأتوقع أن يسرقني نص جديد في أي لحظة من حياتي اليومية المعتادة، حين أكون بلا كتابة ولا إيحاء، ويكون مدعما بتلك الذكريات، وهيأت نفسي لذلك بالفعل.فكرت أن يكون الصيني، معالج الإبر: ماستر تولي، معالجا محتملا لنار الهوى في صدر عاشق منهزم سيُكتب، أو عاشقة هي أيضا أحبت وانهزمت بلا خيار. أن تكون السكرتيرة "أنانيا فاروق"، تلك الأميرة الهمجية التي ستتسكع في أزقة همجية، باحثة عن رجل شاهدته للحظة في متحف بدائي، ولم تنسه أبدا، وأن يكون اليساري "هوشي هيسوكا"، هو مدرس علم السياسة في جامعة ممتلئة بالطلاب، ومحرضا لثورة كبيرة، ستهب في داخل النص الذي سأكتبه، وتطيح بديكتاتور عظيم. فكرت أن أنقل فوران الشوارع كلها، والحدائق كلها إلى بلادي الراكدة برغم محنها المتعددة، وقطعا سيظهر أفندي عرفان، سائق عربة الأجرة، الذي رافقني طيلة بقائي هناك، وأغرقني بتفاصيل ماضيه وحاضره، سائقا هنا أيضا، ولكن لعربة أجرة أخرى، لا تشبه تلك المزركشة التي اعتاد عليها طوال حياته. لكن ذلك كله لم يحدث ولا أمل في حدوثه، وقد علقت في تداعيات روايتي أمنيات الجوع، وما كنت أظن أنها رواية خطرة إلى هذا الحد، حين كنت أكتبها بلا وعي.لقد نشرت أمنيات الجوع في دار نشر محلية، أتعامل معها أحيانا، قبل سفري بثلاثة أشهر، كانت رواية متوسطة الحجم، تتكون من مائتين وعشرين صفحة، وتتحدث بخيال صرف، لا علاقة له بالواقع من قريب أو بعيد، عن رجل أربعيني اسمه نيشان حمزة نيشان، كان أميا، يعمل ساعيا في مدرسة ابتدائية، مهمته إعداد الشاي والقهوة وجلب الإفطار الروتيني للمعلمين، والركض بين المكاتب حاملا ملفا أو ورقة أو نداء، وتعلم القراءة والكتابة بإصرار غريب، وحصل على الشهادة الابتدائية والمتوسطة والثانوية وقد تجاوز الخامسة والأربعين، وقبل أن يدخل الجامعة بفترة قصيرة، وكان قد قرر أن يدرس القانون، ويصبح قاضيا، أصيب بمرض الفصام الموسمي الموروث في عائلته، والذي يصيبه لشهر أو شهرين في العام، ويجعله يستمع لأصوات الوهم التي تناديه، يعارك نفسه، يتحرش بالحياة وتفاعلها ويصنع دمى من القماش الرخو، يحشوها بألعاب الأطفال المتفجرة، ويلقيها على الرجال المتأنقين، والفتيات الجميلات في الشوارع، وربما حمل سكينا حادة وهاجم بها أحدا بلا تمييز، أو ارتدى شخصية عامة، مثل رئيس البلاد، أو قاضي القضاة، أو حتى خياط مشهور في المدينة، وتصرف على أنه تلك الشخصية، وحين تغيب أعراض الفصام أو تضعف في لحظات استراحة، يعود إلى حياته اليومية، شخصا عاديا لا يذكر إلا ما يذكره به الناس، يعتذر لكل من أصيب برذاذ من الهيجان، ويعاود محاولاته المستمرة لدراسة القانون.