13 سبتمبر 2025

تسجيل

الغشيم .. من نص اشتهاء

08 يوليو 2013

كانت حورية مصلح قد رأت الغشيم لأول مرة وهو طفل مربوط، زارته في حمى الزيارات المباركة التي كان لا بد منها أيام سجنها عند الإريتري قبر قبرسلاس هيلا. قالت: الحقني يامربوط! الحقني ياشيخ! ووضعت عند رأسه سلال التمر وحلوى الحلقوم وما استطاعت توفيره من النقود الفضة والنحاس، وأخذت من جنونه عبارتين غامضتين لم تفهمهما ومضت. وحين عاد من معتقله البعيد بعد سنوات الغياب المعرفية شاهدته وسط حشد من المزارعين الفقراء، كان يحدثهم عن مأساة إفريقيا السوداء، تلك القارة الكسيحة إلى الأبد، يحدثهم عن مأساة العالم الثالث كله، ويعلّمهم صياغة الغضب في وجه من استعبدهم، وكانوا يتلفتون برعب، ويتسربون من صراخه واحداً بعد آخر. لمحها فتوقف درسه في حلقه، رماها بجنية مسيسة، استوحاها من جسدها الرشيق الشحم، حين صرخ: – مرحباً بغلاء المعيشة... مرحباً بالسوق السوداء. ثم قهقه بكل ما أوتي من جنون. انتبهت حورية إلى عروقه المجلجلة في عنقه وآثار مرض الأكزيما على يديه وساقيه العاريتين حتى الركبتين؛ انتبهت إلى عينيه الممتلئتين بنوازع العلة والذهول، وقميص سجنه الدمور الذي يحمل رقماً فظاً؛ انتبهت إلى حسنات ربما تكمن في عيوبه الجلية وسعاله الذي كان كسعال المصابين بسلّ الرئة، وأيقنت، بيقين المتمكنات من اليقين، أنها مُنحت فرصة العمر أخيراً لامتلاك خادم يتيم معتوه، جبار، وطويل النظر إلى أبعد مستوى. وقفت وسط حشد المزارعين الفقراء فقيرة مثلهم، وسعت أذنيها تستمع إلى مواصفات البؤس في إفريقيا، كما كان يوصف، ومأساة العالم الثالث غير المتحضر، كما كانت توصف، وتنفست بأنفاس حارة كان يتنفس بها الآخرون. وحين فرغ الغشيم من خطبته صفقت بحماس، رققت صوتها إلى أبعد حد، نادته: يا غشيم. جاءها على الفور مثل ومضةٍ من لهب حي، كان يقهقه ويبكي في الوقت نفسه، تتساقط نظراته على الأرض، وترتفع إلى السماء، وتستقيم على خط الأفق، لتمتص غبار الشوارع. كان جائعاً بحق ويابس الفم بشدة، تقرقر الحموضة في ثلثي معدته وتسعل مصارين الجوع في بطنه بذلك السعال الشحاذ. أخذته إلى بيتها، أجلسته على حصير أخضر من سعف الدوم كان ممدداً على الأرض، أطعمته من فطائر اللحم والبيض المهروس بالصلصة وشرائح البطاطا المقلية في زيت عباد الشمس، وأعانت عصارته الهاضمة، التي لم تصادف شبعاً مثل هذا منذ زمن بعيد، بشاي أسود. كان الغشيم يأكل مثل جرذ، كانت عيناه صغيرتين ومضطربتين ومتجاوزتين للحد المعقول من التماسك، ترعيان في بيت الحضرمية بلا هدف، وكان جسده الذي تهتّك من ضغط الحبال وضراوة التعذيب في السجن يرتعش بين حين وآخر. وحين فرغ من آخر قطرة مرة من الشاي الأسود تجشّأ تجشؤاً كاملاً، كلّمها بلسانه المريض لأول مرة منذ تبعها في الطريق، ولقّبها بلقب هائل تحول بمرور الأيام إلى لقبها الدائم في لسانه بعد كل طعام مشبع. قال: – شكراً يا عمتي شجرة الدر.