10 سبتمبر 2025
تسجيلدخلت الصالون وهي ترسم أجمل ابتسامة، تُميط اللثام عن أسنان ناصعة تدل على سعادة بالغة، واتأكت على مقعد وثير بصالة الاستقبال. وقبل أن تشرع في قراءة الكتاب الذي أخرجته من حقيبتها الأنيقة، تقدمت نحوها مصففة شعرها بانشراح، مرحبة بتلك الزبونة السعيدة. لقد لفتت نظري بسبب عمرها، إنها تتجاوز الثمانين عامًا، لكنها تتحلى بروح وحيوية فتاة يافعة، ما زالت تُقبل على الحياة كأنها في العشرين. كان الفيلسوف الانجليزي يتحدث، ويقول: "الشيخوخة في الروح وليست في الجسد". الإنجليز ليسوا وحدهم الذين يتمتعون بالحياة حتى آخر قطرة، فالسنغافوريون يفعلون ذلك بمهارة، يعترف رجل الأعمال السنغافوري الناجح تشو باو (83 عاما) أنه لا ينام سوى أربع ساعات يوميًا، يقول: "لا أود أن أهدر يومي في الفراش"، يقضي يومه في المكتب أو مع أبنائه، يلعب معهم كرة السلة أو يطهو لهم، يرى السنغافوري أن الموت يهرب منه كلما وجده سعيدًا، يقول في مذكراته التي صدرت في العام الماضي: "أنا لا أخاف من الموت. سيحملني يومًا ما... عاجلاً أم آجلاً، لكن لماذا أناديه قبل أوانه؟". المسنون في العالم يركضون ويستمتعون، يتزينون ويتعلمون، لكن أقرانهم في دولنا العربية مريضون وحزينون ومكتئبون، يموتون قبل الموت. لماذا تنطفئ حماستنا في الستين؟ يُقلع كبارنا عن السعادة والفرح مبكرًا، يحرمون أنفسهم والآخرين من إمكاناتهم إثر تقوقعهم وانزوائهم عن العالم المحيط. في الغرب عندما يتقدم الإنسان في السن تظهر عليه ملامح الرفاهية والارتياح، فقد تحرر من الكثير من الالتزامات وتفرغ ليسعد بهواياته، في المقابل ينزوي الإنسان في دولنا العربية عندما يكبر، تصيبه الأمراض الواحد تلو الآخر إثر جلوسه وإحباطه، ينتظر الموت أن يلتقطه في أي لحظة. الإقبال على الحياة يُطيل العمر ويُسعد الإنسان وينعكس على أدائه وعمله، ألم يقل سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: "خير الناس من طال عمره وحَسُنَ عمله"، فلمَ لا نطيل أعمار آبائنا بإسعادهم وإخراجهم من عزلتهم وقنوطهم، ونعيد الحياة والحماسة إلى أرواحهم وأطرافهم، علينا أن نشجع أمهاتنا وآباءنا وأقاربنا على ممارسة ما يحبون. تأثرت جدًا عندما سألتني قبل عدة أشهر امرأة في العقد الخامس أن أساعدها في كتابة رسالة نصية من جوالها، فلماذا لا تحاول ان تتعلم هذه المرأة لتساعد نفسها وغيرها؟ لماذا يشعرون بأنهم كبروا؟ ويرددون دائما "خلاص كبرنا وراحت علينا نخليها لاولادنا الصغار" أولادكم الصغار يتمتعون بحياتهم ليس لكم، ولكن لأنفسهم هم ولأولادهم في المستقبل، فلمَ لا نصفق لمسنينا وندعمهم ونؤازرهم كبقية العالم؟، بدلاً من أن نقول لهم خلاص كبرت يا فلان، فالإنجاز والإبداع لا يرتبطان بعمر ومرحلة معينة. ما معني أَرْذَلِ العُمُــرِ؟ استعاذ نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم من أرذل العمر، فنحن كمسلمين عقيدتنا الاستعانة بالله على مواجهة أرذل العمر بالدعاء كما يفعل رسولنا الكريم حين يقول: (اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأعُوذُ بِكَ أنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ)، حقيقةً إن الشيخوخة "كأس"، وكل الناس شاربه، وقد ذكرتني بحوث علماء الشيخوخة، بآيات قرآنية، حققت هذا السبق العلمي، قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، مع سطوع نور الإسلام على العالمين، إذ قال تعالى: "وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ".(يس: 68). هنا يحدَّثنا القرآن عن "النَّكْس في الخلق"، الملازم للإنسان؛ كلما تقدم في العمر، ومعناه: ردُّه في الهرم، إلى مثل حاله بالطفولة، وكما خُلق من ضعف سيعود للضعف، "لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا". وهذا ما تشير إليه آيات عدة، منها قوله تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ". (التين:4و5)، وقوله: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً". (الروم:54)، وقوله: "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ".(النحل: 70 )، وقوله: "وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا". (الحج: 5). وتتحدث هذه الآيات الكريمة، كافة، عن عقل يضعف، وجسد يبلى، ووهن يصيب المرء، يلخصه تعبير "أرذل العمر"، الذي يختلف باختلاف الناس. و"أرذل العمر" معناه "أردؤه وأسوؤه"، وهو وصف للعمر، لا للشخص، فلا يُقال "رذيل العمر". وقد تفاوتت تقديرات العلماء لتلك السن. فقال علي: خمس وسبعون سنة. وقال قتادة: تسعون. وقيل: ثمانون سنة. ولكن "أرذل العمر" لا يُحد بمقدار معين، بل المقصود به بلوغ المرء الكبر والهرم، وإصابته بضعف العقل مع ضعف البدن، وهي حال تختلف من شخص إلى شخص، ومن زمن إلى زمن، ومن بلد إلى بلد، وفق مؤثرات نفسية وجسمية ووراثية عدة، كما ذهب اليه بعض العلماء. وتختلف الحكمة في ردِّ المرء إلى "أرذل العمر" باختلاف الأشخاص، وفي حق البعض هي كفارة ذنوب، وفي حق البعض الآخر هي عقاب في الدنيا، شأنه شأن أي بلاء. كسرة أخيرة عندما تتناوشك الأفكار لتذهب بك إلى الحزن والتشتت، تذكر أن حياتك ومماتك، سعادتك وشقاؤك، صحتك ومرضك، قوتك وضعفك، كلها بيد الله سبحانه، وليست بيد من تفكر فيهم، فهم أضعف من أن يملكوا لك نفعا ولا ضرا، فضلا عن ان يضروك بشيء، فسلم امرك كله لله واطمئن، فكل منا بشر، يخطئ حتماً، لكن المهم ألا تتوقف عن إصلاح خطئك، مهما تكرَّر، وغلبه ضعفه، فقد يبدَّل الله سيئاتك حسنات، وأنصح نفسي وإياكم بالإكثار من الأدعية التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله: "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي". الكاتبة الصحفية والخبيرة التربوية [email protected]