27 أكتوبر 2025
تسجيلجمعة الصياحات المفتقدة بعد غيبة طويلة فرضتها تعاسة الحرب، ازدانت أشجار الهجليج التي تمنح الظل والمأوى بأعلام أنسابة الخضراء والوردية، دُهنت حوائط قصر المسك بأبيض لمّاع استُورد من خارج السلطنة على عجل، دُهنت نوافذه بالأخضر الزرعي وباب الماهاجوني الذي يتوسطه بأزرق شفاف كان يمنحه البريق، مُلئت أزيار الفخّار المكلفة بالسقاية حتى أعناقها، طُيِّرت في السماء حمامات بيضاء للسلام، وبركت في الطرق التي تؤدي إلى قصر الصياحات مئات الدواب التي حملت الأعلام الخضراء والوردية أيضاً. كانت السلسلة السباعية في زيٍّ جديد، وكان الحاجب نفسه في زيٍّ جديد، والخصيان الذين يحرسون ويروحون ويجيئون بأزياء جديدة أيضاً. جاء أهل أنسابة كما لم يجيئوا من قبل قط، حتى في الجمعة الظليلة، جاءوا من رأسها القاحل ورأسها الممتلئ ضجةً، من بطنها الممتلئ عزةً، من أكتافها التي تحملت الوزر، ومن ساقيها اللتين لن تنفرجا أبداً لمفترٍ. كان كرنفالاً نابضاً حيًّا، أحيته أنامل الجدات في عزفها على الطبول الصفراء وتحريك الأرجل المنغَّمة بالسكك والخرز، وفي صوت الجدة «تمائم شريف» وهي تغني قصائد العودة المرتجلة، وطهارة الطاهرات التي كانت وجوهاً غضة، وفوانيس ملونة، وضفائر شديدة السواد يخنقها العقيق. طفن على الجموع بمباخر مزركشة تضخّ عطر الصندل وقناني بنية اللون فيها هذيان مسك، وحين أمر السلطان شخصياً بترطيب الحلوق بشراب القضيم المنقّح بماء الورد صفّق الناس حماساً ورهبة. حضر ملوك الأرياف كلهم، حضروا بألبسة المناسبات المطرزة وعمائم الضباب الفخمة وعلى أحصنة أصيلة لم تكن تُستخدم إلا نادراً. حضرت أرامل الشهداء ونساء العائدين، حضر أطفال اليتم، وكأنّ أرواح الموتى نفسها رفرفت بابتهاج في تلك الجمعة جديدة الطعم. وقف حلحلوك المجنون تحت شجرة هجليج ظليلة، في يده علمٌ أخضر يرفرف، في رجله عناقيد خرزٍ قديم، في عينيه لمعان قنديلٍ متوهّج، ومن فمه تتساقط حكايات المجانين التي كانت في طيّها حكم.«قابلت الخائن هاشم درب في صحراء ’أم حلق‘ اليابسة، نعم قابلته، ارتمى فوقي وقال: عضّني يا حلحلوك، عضّني أرجوك، فهربت منه، هل أعض خائناً بذمّتكم، هل أعض خائناً؟».لم يكن الناس يضحكون، ولا كانوا يبكون، فقد بدا أنهم استنفدوا الضحك واستنفدوا البكاء، وما عادت سوى مشاعر موحّدة تجاه أنسابة العظيمة.هبط الجليل المهاب عن فرسه الأسود المخطط على أيدي عبيده الخارقين، ثبّت عمامة الضباب السوداء على رأسه وخطا بحذاء جلد النمر المغاربي إلى داخل القصر. هبّت رائحة مسك، مدّ الجميع أعناقهم، هتف هتاف وزغردت مزغردة وصرخ الحاجب الذي عند الباب:– الأب الشيخ يوسف كرا.دخل الحكيم دوباجي مبجَّلاً، والمفتي لاليا البرناوي منتفشاً، والترزي كردمان مرتدياً واحداً من أزياء السلم الجديدة والمفصّلة بعناية. وكان هناك العشرات من رسّامي المناسبات من داخل السلطنة وخارجها، ينتشرون بأقلامهم وقماش فنهم، يلتقطون ويوثّقون.كان نجَّام الآن ممتلكاً الرزينة نظر بالكامل بعد أن تركت بيتها تماماً وأقامت في بيته. كان توهانها معضلة، وعدم توهانها معضلة، وإصرارها على النكش الدائم لشعرها وبعثرة أزرار الفساتين أعباء أخرى تضاف إلى أعبائه. وحين كان في مهمته الجليلة في الحرب كانت تتغذى بالنبق وتأكل الحميض نيئاً بلا طبخ، وأجّلت حتى سواك أسنانها وترتيق الثقوب في فساتينها انتظاراً لعودته.