13 سبتمبر 2025

تسجيل

موقف

08 مايو 2018

فجأةً عطس الغريب بقوة. رائحة في التنباك العماري، وارد الفاشر، فحلة وقوية يعرفها المزاجيون، اندلقت إلى خياشيمه، قبّلت المزاج المضعضع حتى عطس. أحست حورية بعطاسه غريباً، أجنبياً، ومهرّباً مثل سجائر الكنت؛ أيقظ أشجانها القديمة؛ بعث فيها روحاً طائشة. أحبت عطاسه بتهور، وجادلت في السعر المعروف لسجائرها، وهي كاذبة، لتطيل وقائع الحب والدهشة. عطس الغريب مراراً وهو يقرّب كيس التنباك من أنفه ويبعده بنشوة، وتهوّرت مراراً وهي تشتري أشياء لا تستخدمها عادةً، ولم تشترها من قبل أبداً، وبدت وقفتها وهي حاضنة ذهولها المباغت ورعشتها العميقة وقفة بناءٍ هشّ يتلاعب به مطر غزير. كانت قد تجاوزت الأربعين منذ زمن، بشعرٍ مصبوغ حتى جذوره، وحنّاءَ متقنة جداً على يديها وقدميها، وجسدٍ رشيق الشحم، ورائحة طلح معتّق تنزّ منها، وعينين رمّمهما كحل استفزازي وأوقدهما ناعستين، وكان قد تجاوز الأربعين، هو الآخر. كانت من دماء البلدة الأصيلة، حقنت في عروقها نطفة، وترعرعت في جسد البيئة حتى كبرت، وكان دماً جديداً استخلصته وزارة التربية والتعليم من إحدى قرى الشمال البعيد، وحقنته في عروق البلدة منذ عدة أيام فقط مدرّساً ابتدائياً لمواد العلوم والدين والجغرافيا. لم يكن «أعمشَ» لكنّ نظارة الشمس فوق عينيه كانت توحي بعمشه؛ لم يكن واهن الجسد لكنّ وهن الغربة والسفر والوساوس كان يتقاذفه؛ لم يكن أصلع الرأس لكنه يخطو إلى الصلع بجدارة؛ لم يكن أنيقاً ولا جذاباً ولا لامع الحذاء، ولا أهلاً لليالي الطيش في بلدة جانبية، لكنّ حورية مصلح لم تنسه أبداً. في ذلك الصباح المختلف جداً عن صباحاتها المألوفة جرّدها من نعمة الرسوخ السَني؛ اندلق عطراً خطراً تناثر في رأسها وعينيها وصدرها اللاهث ومرفقيها ومسار تقلباتها لثلاثين سنة قادمة. كانت تحسّه في كل نفس من سجائر الكنت المهربة التي أخذت تشعلها واحدة إثر أخرى؛ تعصره في خيالها بقوة وتجسّه بأنامل الخيال، وتعدّ الفطور والقهوة وشاي الحليب الكامل الدسم من دون جوع أو عطش أو مروءة.