14 سبتمبر 2025

تسجيل

رغم كل الضجيج.. تركيا أكثر أهمية و أرجح وزناً من إيران و مصر مجتمعتين

08 مايو 2014

احتدم الصراع على مستقبل المنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة في ظل فراغ القوة الذي خلفه الانكفاء الأمريكي عنها، وبلغ الصراع أشده في الدول التي اندلعت فيها ثورات الربيع العربي وعليها، وامتد ليشمل كبيرها (مصر) وصغيرها (تونس وليبيا) وما بينهما (سوريا والعراق واليمن)، لا بل لم يبقَ أحد بمنأى عن التجاذبات بما فيها الدول التي تعد فاعلاً أساسياً في المشهد الإقليمي والطامحة إلى لعب دور مهيمن فيه، كما حدث أخيراً في الانتخابات المحلية التركية، حيث اُستنفرت جهود محلية وإقليمية ودولية لوضع نهاية لحكم رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحزبه، بعد أن ربط هذا الأخير مستقبله بنتيجة الانتخابات، ومن خلال ذلك تغيير المشهد الإقليمي. هذا الصراع ينذر بصعود قوى إقليمية كبرى وانحدار أخرى، وتتركز معظم التحليلات حول مثلث تركيا، مصر وإيران، لتعكس تماماً وضع المعسكرات الثلاث التي انقسمت إليها المنطقة في ظل ثورات الربيع العربي، وهي المحور الداعم للتغيير ومحور مقاومة التغيير، ومحور الممانعة لكل شيء.فكيف تبدو التقديرات حول أي من هذه المعسكرات ستكون الغلبة في هذا الصراع الكبير، وذلك من خلال استعراض فرص واحتمالات صعود وانحدار القوى الثلاث الكبرى فيها (مصر وإيران وتركيا) بناء على مقومات القوة التي تملكها.إذا بدأنا بمصر، نجد وفق كل المعطيات المتوافرة، أنه يكاد يكون من المستحيل لها أن تتبوأ دوراً إقليميا كبيراً في ظل ظروفها الراهنة، لقد حصلت مصر على هذه الفرصة مرتين خلال القرنين الماضيين، الأولى في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن هذه المحاولة فشلت لأن طموحات محمد علي باشا فاقت بكثير إمكانات مصر وقدراتها من جهة، ولأن المقاومة الغربية لمشروعه كانت كبيرة من جهة ثانية. أما الفرصة الثانية فقد سنحت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لكن مصر لم تتمكن من الاستفادة منها أيضاً لأسباب كثيرة منها، ظروف الحرب الباردة والصراع مع إسرائيل، وفشل النخب الحاكمة المصرية في وضع رؤية سياسية واقتصادية متكاملة تجعل من مصر قاطرة تحديث وتصنيع وتنمية لعموم المنطقة. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، تقلص دور مصر الإقليمي إلى حده الأدنى نتيجة طغيان ترتيبات خلافة الرئيس الأسبق حسني مبارك على ما عداها من أولويات أمنية وتنموية وإستراتيجية. لكن مصر كادت أن تحظى بفرصة ثالثة لو مضت مسيرة التحول الديمقراطي التي أطلقتها ثورة 25 يناير في طريقها رغم العثرات، لكن العسكر قضوا على هذه الفرصة. وفق المعطيات الراهنة تبدو فرص مصر في تأدية دور قيادي في المنطقة أقل من أي وقت مضى، فعدد سكانها يتجاوز 90 مليون نسمة، وناتجها الإجمالي القومي لا يتجاوز 270 مليار دولار بحسب أرقام صندوق النقد الدولي لعام 2013، ما يضعها في المرتبة 41 عالمياً بعد الفلبين وتشيلي ونيجيريا، وتقترب من اليونان التي تصغرها مساحة وسكاناً 10 مرات وتعاني فوق ذلك من أزمة اقتصادية طاحنة. وفي ظل حال عدم الاستقرار السياسي التي تعيشها مصر حالياً، وما نتج عنها من أضرار طالت قطاعات اقتصادية عديدة، فضلا عن ارتفاع معدلات الأمية، والبطالة، والفقر وهيمنة الجيش على الاقتصاد الوطني وتوزيع ريعه كجوائز ترضية على ضباطه العاملين والمتقاعدين، كل ذلك يجعل من الصعب تصور تحول مصر إلى دولة إقليمية كبرى، لا بل الأرجح أنها ستتحول إلى عبء كبير على عاتق حلفاءها، قبل أن تقع في نهاية المطاف في دوائر نفوذ إقليمية ودولية أخرى. إيران هي الأخرى- رغم كل الضجيج الذي تمارسه – ليست مهيئة للعب دور قوة إقليمية مهيمنة، كما كان الأمر يبدو عليه قبل ثورات الربيع العربي، حتى في ظل تقارب مع الولايات المتحدة، وذلك لأسباب بنيوية منها أن الناتج الإجمالي القومي لإيران ذات الثمانين مليون - بحسب إحصاء 2013 - لا يتجاوز 350 مليار دولار ما يجعلها في المرتبة الثانية والثلاثين على مستوى العالم، حيث تسبقها دول صغيرة مثل فنزويلا وكولومبيا وتايلاند وحتى الإمارات العربية المتحدة على التوالي. وقد فقدت إيران خلال سنوات المواجهة مع الغرب والاستنزاف في مغامرات على مستوى الإقليم إمكانية التحول إلى قوة اقتصادية إقليمية كبرى على غرار تركيا، مثلاً. فضلا عن ذلك، تقع إيران من الناحية الجيوسياسية على أطراف المنطقة، بخلاف تركيا مثلاً الأقرب إلى المركز، وتبدو محاطة ببيئة غير صديقة، فهي أن حاولت التوجه سعيا وراء النفوذ إلى آسيا الوسطى مثلا سوف تكون روسيا لها بالمرصاد، أما شرقاً فهناك أفغانستان التي لا يوجد فيها ما يغري، فيما لا تشكل باكستان صديقاً يمكن الركون إليه، لذلك تجد إيران نفسها منجذبة دائما نحو الغرب، لكن هنا أيضاً تصطدم بالعرب المختلفين عنها بالقومية واللغة والمذهب والمصالح، والمستعدين دائماً لصد نفوذها، خاصة بعد موقفها من الأزمة السورية، وقد أبدوا كل الاستعداد لذلك في السنوات الثلاثة الأخيرة.صحيح أن إيران تبدو إقليميا الأكثر نشاطاً وحيوية، إلا أن هذا النشاط يشكل في العمق نقطة ضعف إيران الأبرز، فهذا الدور لا يشتت قوتها ويستنزف مواردها فحسب بل يضعها في صدام مع معظم قوى الإقليم، العرب والأتراك والباكستانيين، فضلا عن الغرب الذي لا ينظر بارتياح إلى الدور الإيراني، كل هذا يجعل إيران دائما في وضع دفاعي. من هنا تبدو إيران مدركة لحدود قوتها، ويمكن ملاحظة ذلك في التناقض الظاهر بين خطابها وسلوكها. ففي الوقت الذي كانت فيه تصريحات المسؤولين الإيرانيين خاصة في عهد أحمدي نجاد تعد العالم لسيناريو قيام الساعة، كانت تصرفاتهم في السياسية الخارجية محسوبة بدقة فائقة. وكانت سياستها الإقليمية تقوم دائماً على استخدام أطراف ثالثة مثل حزب الله والحوثيين، وإرسال مستشارين ومعونات ودعم عسكري إلى مختلف أنحاء المنطقة لبناء نفوذ لها هنا وهناك، لكنها كانت حذرة جدا في استخدام قوتها بشكل مباشر. فإيران تفضل دائما القتال من وراء ستار – أي حروب الوكالة – بدلا من الانخراط في مواجهات مباشرة مفتوحة حتى مع أطراف أضعف منها.نأتي أخيراً إلى تركيا التي يبلغ عدد سكانها نحوا من 70 مليون نسمة فيما يفوق ناتجها الإجمالي القومي 830 مليار دولار وهي تشكل بذلك الاقتصاد رقم 17 في العالم وتحافظ منذ عقد على معدل نمو سنوي يتراوح بين 5-6 بالمائة، وتجاوز أحيانا 8 بالمائة، ولديها نظام سياسي مستقر وقاعدة صناعية متطورة وقوة بشرية متعلمة. فوق ذلك تحتفظ تركيا بعلاقات قوية مع الغرب وهي لذلك لا تحتاج إلى تخصيص أي مقدرات لمواجهة أعباء التصدي له كما إيران. ولدى الحكومة التركية خطة طموحة للتحول إلى الاقتصاد العاشر في العالم بحلول عام 2023 - عندما تحتفل بالذكرى المئوية لإعلان الجمهورية التركية، ما يعني أنها ستتجاوز في هذه الحالة كل من كوريا الجنوبية والمكسيك وإسبانيا وأستراليا وكندا.ويمثل الاقتصاد التركي بوضعه الحالي ضعفي الاقتصاد الإيراني وثلاثة أضعاف الاقتصاد المصري وأكثر من مجموع الاقتصاديين معاً، فوق ذلك تملك تركيا القاعدة الصناعية الأكثر تطورا في المنطقة وعموم العالم الإسلامي. ويشكل جيشها ثاني أكبر جيوش حلف الناتو بعد الولايات المتحدة. أما من الناحية الجيوبوليتيكة، فإن تركيا تتموضع بين أوروبا والشرق الأوسط وروسيا، ما يجعلها تتحكم بأقصر الطرق البرية والبحرية بين هذه المناطق الثلاث. نقطة ضعف تركيا الأساسية هي افتقارها إلى موارد الطاقة لكن هذه المشكلة يمكن التغلب عليها إذا تغيرت التحالفات السياسية في المنطقة خاصة تلك المرتبطة بالصراع على سوريا، أو إذا بدأ استثمار احتياطات الغاز الكبيرة في شرق المتوسط. وإذا تحررت تركيا من الابتزاز الروسي والإيراني في مجال إمدادات الطاقة فسوف تتلاشى كل القيود التي تمنعها من تبوؤ مكانتها كقطب إقليمي أكبر في المنطقة.من هذا المنطلق وبناء على هذه المعطيات يتضح لنا لماذا يجب أن نستمر في التركيز على تطوير علاقة تحالفية وثيقة مع تركيا حتى لو خسرنا مصر وعادتنا إيران.