12 سبتمبر 2025
تسجيللكي نحافظ على النتائج المهمة التي حققتها ثورة مصر لابد أن نعمل على توعية شعوبنا وحمايتها من الذين يحاولون تزييف وعيها... ولقد قامت وسائل الإعلام في مصر بعد الثورة بحملة لتخويف الناس من أن الدولة الدينية قادمة، وأنها تشكل خطراً على المجتمع وعلى الديمقراطية. وهذه الحملة ليست جديدة، لكنها تشكل استمراراً للأسلوب الذي اتبعته وسائل الإعلام لصالح الاستبداد، ولوضع الشعب أمام خيار واحد هو إما استمرار الحكام الفاسدين المستبدين الطغاة أو الدولة الدينية. ومازال يتم الاستعانة بالوجوه نفسها التي شاركت لفترة طويلة في تغييب وعي الناس، وتبرير تقييد الديمقراطية بحجة الحرب ضد الإرهاب. وعندما تدرس خطابهم فإنك ستكتشف قدراً كبيراً من الجهل المغلف بمصطلحات غامضة وغريبة عن حضارتنا تعطي انطباعا بأن المتحدث مثقف أو خبير في السياسة والديمقراطية. وأخطر تلك المصطلحات الدولة الدينية. فظاهر المصطلح يشير إلى ارتباط تلك الدولة بالدين، وأن كل دولة ترتبط بالدين هي بالضرورة معادية للديمقراطية والحريات. والذين يرددون ذلك المصطلح ويحاولون تنفير الناس منه يمكن تقسيمهم إلى نوعين: قلة تعرف وتحاول أن تضلل وتزيف وتزور باستخدام أساليب الحزب الوطني، وكثرة تجهل وتردد مقولات لا تعرف لها أصلاً، وقد يكون بعضهم بعيداً عن الدين بقدر ما. ولكي نكتشف الحقيقة لابد من تحرير المصطلح والعودة إلى أصوله وجذوره وكيفية نشأته، فالدولة الدينية مصطلح مرتبط بتجربة تاريخية أوروبية، وهو عنوان لحالة سياسية واجتماعية مرتبطة بزمان ومكان، ولا يمكن أن ينطبق على غير تلك الحالة، والذين يرددونه يعتدون على التاريخ باستخدامه في سياق مغاير وبهدف التزييف والتضليل. ولكي نعرف المفهوم لابد أن نعود إلى أصوله، فهو يصف حالة التحالف الذي نشأ في أوروبا بين ثلاثة قوى هي: الملك الذي يحكم باعتباره ظل الله على الأرض، وكل قراراته تعتبر إلهية لا يجوز مناقشتها، ويجب أن يخضع الجميع لها، والملك إنما يتم توريثه باعتبار أن ذلك التوريث هو إرادة إلهية، ولذلك سار في أوروبا نوع من الخضوع التام للملك وورثته، ذلك أن أي اعتراض على قرارات الملك هو كفر، أما القوة الثانية فهي قوة الكنيسة، وهي تتمتع باحتكار كامل للمعرفة، فالكتب في الأديرة، ومن يريد الإطلاع عليها لابد أن يندرج في سلك الكهنوت، وأن يكون له مواصفات معينة، والكنيسة هي التي تتوالي هداية رعاياها وإعطائهم ما ترى أنه يناسبهم من معرفة ويكفيهم ليكونوا عباداً صالحين يخضعون للملك ويرضون بما قسم لهم الرب، وينتظرون الذهاب إلى السماء، وعليهم أن يدفعوا ثمن صكوك الغفران التي هي طريقهم إلى الجنة. ولقد رأيت في الريف الإنجليزي قصوراً تاريخية أقامها القساوسة بأموال الناس وباستغلالهم وكانوا يعيشون كالملوك في هذه القصور.. وكل ما يمكن أن يحصل عليه المواطن المسكين هو مسحة على الرأس من يد الكاهن أو القسيس تفتح له أبواب البركة، وكان القساوسة يرددون مصطلحات غامضة مثل تلك التي يرددها بعض المثقفين الآن عن الدولة الدينية. أما القوة الثالثة فكانت مجموعة كبيرة من الإقطاعيين النبلاء الذين يشكلون حاشية الملك وأتباعه المخلصين ويقومون بحمايته، وفي مقابل ذلك يعطي الملك لكل منهم منطقة معينة (إقطاعية). كما يعطيه لقباً يجعله ملكاً صغيراً، ومن أهم الألقاب لقب " الدوق " وهذا الإقطاعي يمتلك الأرض ومن عليها من البشر، حيث يصبح كل الذين يعيشون على الأرض عبيداً أو خدماً لهذا الإقطاعي. ويتضمن الأدب الإنجليزي الكثير من القصص عن ممارسات الإقطاعيين وظلمهم، ومن أهمها أن كل من يتزوج يجب أن يذهب إلى الإقطاعي ليعطي له زوجته ليقضي معها الليلة الأولى، فهي دائماً من حق هذا الإقطاعي.. وهي أيضاً ممارسة مستمدة من تاريخ الملوك الرومانيين، وأتباعهم من كبار قادة الجيوش، وهناك الكثير من الأفلام التي صورت المآسي الناتجة عن استغلال الإقطاعيين وجشعهم وتكديسهم للثروات وعدم خضوعهم لأية قوانين، فالملك فوض لهم سلطاته في أن يفعلوا بالناس ما يريدون، ويجب أن يخضع الناس لإرادة الإقطاعي باعتبارها إرادة الملك، وتلك مستمدة من إرادة الرب، ولا مجال لمناقشة أو حرية للرأي والتفكير. وكان من الطبيعي أن يعادي هذا التحالف أية أفكار جديدة، وأن يعادي العلم والمعرفة بشكل عام، ولذلك فقد قام هذا التحالف بمطاردة العلماء وسجنهم وتعذيبهم وقتلهم في بعض الأحيان، كما طارد الذين قاموا بإنشاء مطابع لطبع الكتب. لذلك فمن أهم سمات الدولة الدينية احتكار المعرفة ومنع الناس من الحصول عليها باعتبار أنها تشكل خطراً يهدد التحالف بين الملك والكنيسة والإقطاع. يضاف إلى ذلك استغلال المشاعر الدينية، واستخدام الناس لتحقيق أهداف الملوك والإقطاعيين دون الحصول على أية حقوق كما حدث خلال الحروب الصليبية. حيث وجد المواطنون الأوروبيون العاديون في هذه الحروب فرصة للموت في مهمة مقدسة بديلاً عن الموت على أيدي الإقطاعيين، وفرسان الملك الذين تحولوا إلى أمراء حرب يريدون أن يستولوا على مناطق معينة ليصبحوا عليها ملوكاً، أو يحصلون على إقطاعيات. هذه هي صورة الدولة الدينية التي يخوفون الناس منها... ولكن!