29 أكتوبر 2025

تسجيل

الحق مر، ولا يتجرعه إلا كل حر

08 يناير 2014

لا يعرف الحق بالرجال، كما لا يستدل عليه بكثرة الأتباع، ولا بتكاثر الأموال، ولكن كما قال أهل الفضل: اِعرف الحق تعرف أهله. وصدق الغزالي حين قال: "فاعلم أن من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال، فاعرف الحق تعرف أهله إن كنت سالكاً طريق الحق، وإن قنعت بالتقليد والنظر إلى ما اشتهر من درجات الفضل بين الناس، فلا تغفل الصحابة وعلو منصبهم" والحق عزيز، والإيمان به يحتاج إلى تكاليف لا يطيقها كل الناس، ولله در الإمام أحمد ـ رحمه الله — الذي يتشدق به اليوم من هم أبعد الناس عنه سلوكا وتطبيقا! — حين كانت فتنة خلق القرآن لم يحنِ رقبته لظالم، ولا باع إخوانه بثمن بخس دراهم معدودات، ولا وقف مع أهل الفساد والزيغ ممن ظل طيلة عمره يحذر الناس منهم ومن فسادهم، بل ثبت أحمد على الحق حتى انتصر، والمفارقة أن الإمام رحمه الله كان يخشى بحكم الفطرة: العذاب بالسوط، لكنه لم يجعل من ذلك تكئة لأن يخالف منهجه وتدينه، ولم يتحايل ليدعي زورا أن الرضوخ للفاسدين والظالمين كأكل الميتة جائز عن الحاجة! حتى ولو كان ثمن الرضوخ: دماء تراق، وأموالا تنهب، وأعراضا تنتهك، ودينا يغيب! يقول رحمه الله: "لست أُبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف إنما أخاف فتنة السَّوط". لقد ثبت رحمه الله على الحق وتحمل تبعاته، والعجيب أن الله ثبته بِـ "لِصٍ"! "كنت كثيراً أسمع والدي أحمد بن حنبل يقول: رحم الله أبا الهيثم، فقلت: من أبو الهيثم؟ قال: أبو الهيثم الحداد، لما مُدت يدي إلى العقاب، وأُخرجت للسياط، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبو الهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين".وحين أمر المعتصم بحمل الإمام إليه، وكان قد سجنوه في رمضان، دخل عليه إسحاق بن إبراهيم فقال: "يا أحمد، إنها والله نفسك، إنه لا يقتلك بالسيف، إنه قد آلى إن لم تجبه أن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يُلقيَك في موضع لا ترى فيه الشمس". وسيق الإمام بالقيد الذي أثقل كاهله، وكاد غير مرة أن يخرّ على وجهه لثقله، وأدخلوه في حجرة، وأقفلوا الباب عليه، والمعتصم يقول له: "يا أحمد، والله إني عليك لشفيق، إني لأشفق عليك كشفقتي على هارون ابني، ما تقول؟" فيجيبهم: "أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله". ويخيفوه بمن عذب قبله ليرتدع أو يجد ذريعة لأخف الضررين! قال له المعتصم: "ما كنت تعرف صالحاً الرشيدي؟"قال أحمد: "سمعت باسمه. قال: كان مؤذني وكان في ذلك الموضع جالساً — وأشار إلى ناحية من الدار — فسألته عن القرآن فخالفني، فأمرت به فوُطئ وسُحب". وبعد ثلاثة أيام من المناظرة ظهر فيها ثبات الإمام جاءوا بالسياط، يقول الإمام أحمد: "لما جيء بالسياط، نظر إليهم المعتصم فقال: ائتوني بغيرها، فأتي بغيرها، ثم قال للجلادين: تقدموا، فجعل يتقدم إليّ الرجل فيضربني سوطين، فيقول له المعتصم: شُدَّ.. قطع الله يدك، ثم يتنحى ثم يتقدم الآخر فيضربني سوطين، وهو في ذلك يقول لهم: شُدَّوا.. قطع الله أيديكم، فلما ضُربت تسعة عشر سوطاً قام إليّ — يعني المعتصم — فقال: يا أحمد علام تقتل نفسك؟؟ إني عليك والله شفيق. فقال الإمام: "فجعل عُجيف ينخسني بقائم السيف، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟" وجعل بعضهم يقول: "ويلك، الخليفة على رأسك قائم"، وجعل عبدالرحمن يقول: "ويحك يا أحمد، من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع؟"، قال: وجعل المعتصم يقول: "ويحك يا أحمد، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج، حتى أُطلق عنك بيدي". قال: "فقلتُ يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به. قال: فرجع وجلس، فقال للجلادين: تقدموا، فجعل الجلاد يتقدم ويضربني سوطين ويتنحى وهو في خلال ذلك يقول: "شُدَّ قطع الله يدك". قال أحمد: "فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أُطلقت عني"، فقال لي رجل ممن حضر: "إننا كَببْناك على وجهك وطرحنا على جنبك بارية ودسناك". فُعل ذلك بالإمام أحمد لكنه لم يركن إلى الظالمين، ولا إلى نصوص يؤولها ويسقطها في غير موضعها خوفا من سيف المعِز أو طمعاً في ذهبه!هذا أحمد بن حنبل لمن أراد الاقتداء به أو التمسح بتاريخه، إن التاريخ كالسيف لا يرحم أحدا، والمستور اليوم مفضوح غدا، والمظلوم اليوم منتصر غدا!أَمْرَانِ كَمْ قَضَّا مَضَاجِعَ عَالِمٍ ***** الحَقُّ مُرٌّ والسُّكُوتُ مَرَارُفَلَئِنْ سَكَتَّ فَأَنْتَ تَخْذُلُ حَافِظاً***** وَلَئِنْ كَتَبْتَ فَضَجَّةٌ سَتُثَارُعَتَبٌ عَلَى قَلَمِ الحَقِيْقَةِ أَخْرَسٌ****** فَمَتَى وَقَدْ هُدِمَتْ رُؤَاكَ تَغَارُ؟وَمَتَى سَتَكْتُبُ أَنْتَ أَوَّلُ صَارِخٍ****** يُرْجَى إِذَا قَتَلَ الهَوَاءَ غُبَارُفَكَتَبْتُ مَوْجُوعَ الفُؤَادِ، مَرَارَةٌ ******أَلاَّ يُرَى غَيْرَ السُّكُوتِ خَيَارُ