30 أكتوبر 2025

تسجيل

سؤالٌ لا بد منه

07 ديسمبر 2020

في كل مرحلة تاريخية تحتدم بهموم عديدة وتحديّات جمّة، يبرز في العادة: سؤال يختزل روح المرحلة، ويكتنه سرّها اللحوح، ويجسّد هاجسها. وغالبًا ما يتكوّن السؤال من جمعِ أسئلة صغيرة وغزيرة وقلقة وغاضبة ومتطّلعة ومصقولة وأخرى غير مكتملة، يأتي مُحمّلا بالتناقضات التي لا تعبّر إلا عن واقعٍ معقّد، وهذا شأن الحال، وشأن كل حال، ومهما نزع الإنسان إلى تبسيط الأشياء وتقريبها من صورةٍ يفهمها، تظل مسائل الحياة مُركّبة، تقتضي حَلاً مُركّبا. هو السؤال الجامع، الإطاري، الذي تنضوي تحته عصارة عقل الإنسان الحسابيّة: فهمه، وقياسه، وترجيحه، وتأكيده، وتحسّبه، ونبذه. وتنتظم صفوة انفعالاته العاطفيّة: شوقه، وخوفه، وحبه، وكرهه، واهتياجه، وتهلّله. وتنداح حصيلة تراكماته الروحية: حلمه، وأمله، وأناته، وظمئه، وصبره، وإيمانه. يصل أحيانًا مجلجلا على هيئة ثورة، أو صارمًا على شكل إصلاح طال أمده، أو صموتًا ينساب بين أصابع الحديث العام المتداول. في أشد الظروف ينطلق هذا السؤال مُتساميًا، يشرأبُّ عنقه نحو المُثُلِ العليا، يريد القضاء على كل مظاهر التردّي في ثانية، وخلق مدينةٍ فاضلة آنية، يحضر جامحًا لا يعبأ بمتانة العوائق، ولا بمسألة الزمن، ينزع نحو تمثُّلِ دورِ الطوفان الموعود، الذي سينفض كل شيء، ويعيد بناء كل شيء، ثم إمّا ينكسر أو ينحسر أو يعقّد الموقف أو ربّما ينجح ولكن بعد أن يصنعَ مشكلات جديدة وعوائق أخرى تختلف في النوع وتتفق في النسبة. أما السؤال الذي يحلّ لا جاثما، ولا فضفاضًا، بل يَفِدُ مُفصّلًا على جسد اللحظة، يكون في كثير المواضع: سؤال الغَرْس، الذي يستشعر موقعه الزماني، ويدرك غاية الإدراك، ليس بالضرورة أن يكون الحاصد القاطف. وهو من قبيل الأسئلة المرنة، التي تُجسّد فكرة المدافعة، وأن واقع الحياة داخل الحدود الاجتماعية والسياسية ليس روضًا مربعًا خالصًا، ولا جردًا قاحلًا دائمًا، إنما وليد المواسم وتقلّباتها، ورهن الأيادي التي تحاول أن تضبطه وتشكّله. فمن منظور تنزّله وتعاطيه واشتباكه مع الواقع، ينطوي هذا السؤال على قناعة مفادها بأن فرص التغيير وموانعه تمثّل أطوارًا من الصولات والجولات، التي ينبغي فهم طبيعتها، ومراعاةِ منطقِها، والتأهب لورودها، والنأي عن توهّمها، فما كلُّ موجةٍ تُركَب، ولا كلّ نسيمٍ تُفتح له الأزرّة. بيد أن مسألة استحضار هذا السؤال تظل عصيّة، وإتقان تكييفه يبقى مُتجاذَبا بين سطوة النسيان وقصور الاستيعاب وفرط الاستعجال وشدّة التعطّش؛ وليست هذه الجوانب تقلل من قيمته، أو تهمّش من ضرورته، أو تلغي الحاجة إليه في كل وقت ومكان، فهو سؤال البقاء والذهاب، بقدر ما هو سؤال الطلوع والأفول، والنشاط والضمور. وجميع ذلك منطبع في هاجس العهود وإن اختلفت، والعصور وإن تباينت، والفترات وإن تباعدت، فنجده سؤالاً ينبعث في كل مجتمعٍ بين تصرّمٍ وأوبة، ويُنقل على ألسنة الأفراد بين تكتّمٍ وإعلان، وهلم جرّا. أما ذلك السؤال الصموت الخِفر، الذي مهما تطاول وامتد وتراكم وتشعّب، لا يظهر إلا مثل ومضات البرق المتقطّعة، لهو أكثر الأسئلة خطورة، فسكوته الطويل من الوارد أن يحتال - فجأة - إلى دويّ مُربِكٍ ومفاجئ، لا يمكن احتواءه بطريقةٍ صحية، وانحباسه في غوائر النفس، بين عجزٍ وكبت، من الجدير أن يورّث طباعًا تستأنس بالركود، وتركن إلى اليأس؛ وتفشّيه غير المباشر عبر جملة من التفاعلات الاجتماعية والثقافية والإنسانية، من الممكن أن يتراكم بعشوائية، مُشرّعا الباب لخلط الأولويات وتضليل البوصلة. وفي سياقنا الحالي، الحافل بالمفاجآت، والذي تتقاطع فيه طموحات الفعل والإرادة بإكراهات البنية والجغرافيا، أصبح من اللازم أن نبحث عن السؤال الذي يضم المتناثر منا، ويلم الشعث فينا، فيجعلنا نتعرّف على ما ينبغي أن نتعرّف عليه، كضرورة وجودية مُلحّة، يفرضها المسار الراهن المتغيّر، ثم يوزعنا أن نتبيّن موقعنا من التاريخ، تبيّنًا حاسِمًا، وأن نعرف قدر وعينا، وحجم صدقنا، ومساحة إمكاننا. ليس من أمّة إلا ولها سؤالها الخاص بها، ولا تمنع خصوصيّته، أن تتشابه بعض أجزائه بأجزاء أسئلةِ أممٍ أخرى؛ ولكنّه السؤال الذي يعكس خصائص السياق المُعاش، وقضايا الإنسان الذي يعيش في داخله ويتأثّر به ويصنعه. ومن الأخطاء التاريخية الجسيمة: أن تنزلق أُمّة أو يتصدّى أفرادها للإجابةِ عن سؤال لا يمثّلها، فتنفرط سوانح الدهر بين يديها سُدى، وهذا الخطأ يظهر ويتكرر كأحدِ إفرازات العولمة. فلا ثمّة محيد أن نبحث عن السؤالِ الصائب، بوصفه اكتشافا متجددا، السؤال الذي يوقظنا من السُبات، يقظة أبديّة، فينطلق بنا من تفاصيلنا الصغيرة، وصولًا إلى التصوّرات الواسعة. السؤال المُلحّ الذي نصل إليه، كي نجيب عليه، ونبحث عن سؤال صائب يتبعه.