13 سبتمبر 2025
تسجيلتتضفّر إلفة الغرابة بشدة، يخترع الصباح زواراً، وسائلين، وحاملي لغةً فضولية وأطفالاً أشقياء، يخترع المساء شهوته في البن، في الثرثرة، في عرض التفاهات: عن ولادة الماعز، احتضار قط، وختان صبيٍّ في عِشّةٍ ما. يخترع الليل وصفته: الظلام، الخوف، الصراع... وجبروتي ملتصق، والجد متعكّز، والرزينة تنتظر أن ينطق ولد الحُور بتلك الجملة التي تنتظرها: – أريد الزواج منك. كم قدحاً من بنّ الصباح والضحى شربت؟ كم طبقاً من عصائد الدخن والحميض أكلت؟ كم كوباً من مرطبات الهجليج شربت؟ كم مرةً طرقت الباب؟ كم مرةً فتحنا؟ كم مرةً دخلت؟ كم مرةً تجولت بعينيك في وجهي في قميصي في مسامات جلدي... كم مرة؟ انطقها... انطقها.تقاوم التوهان، تسير في وحل أم حراب حين تجفّ وطأة المطر ويبدو في التربة تماسكٌ يتقبّل قدميها الرقيقتين، تهشّ الدجاج، تهشّ القطط، الكلاب التي تسعى إلى الإلفة، تصادق الفتيات الصغيرات، واللائي في سنها، ترى الأمهات يهمسن، يتبسمن، يكشّرن، ترى الرجال يتوقفون عن انهماكٍ أو ثرثرةٍ ويلعقونها، ترى الرديم الذي فارقته، موجوداً، ومتوفراً. بائعو حلوى «الدرادم» اللزجة، بائعو حمّصٍ محروق، أكواخ بيع الأسرّة، أزيار الفخار. ترى ألوان قوس قزح، وولد الحُور، ظلّ المستكشفة، دليلها في اختراق المجهول، ولكن أي مجهول في تلك المساحة المحددة؟ وصرخة الملدوغ تُسمع كاملةً، وآلام المخاض تُعرف كلها، وسكرات الموت لا تخفى على أحد. وفي وصفه للريف كان صانع الطبول يقول: « هو البيت المفتوح، الذي يسكنه الجميع، ولكن كلٌّ في غرفة غيره». تلمح يرقات قول تتكوّن على طرف لسان ولد الحُور لكنها لا تنمو إلى شرانق، لا تنتهي قولاً كاملاً. تقترب الرزينة بلسانها، تسأله: – هل من شيء تودّ قوله يا جبروتي؟ – نعم هناك الكثير. يخفق قلبها بشدة، لا بدّ أن الكثير الذي يعنيه هو القليل الذي تريده، فقط تلك الجملة وينتهي الأمر... تقبل بلا شروط. – قل إذن. قل إذن، وتتوقع الآن أن يكون جبروتي هو الخاطب الجديد للرقة الجديدة في الريف الجديد... أريد الزواج منك كما قلت سابقاً. يشير إلى بيتٍ منعزلٍ ومتهالكٍ وغارقٍ في الوحل: – في هذا البيت ولدت، وولد إخواني كلهم، لكننا هجرناه مؤخراً وبنينا واحداً جديداً، سيعجبك. هل هي حصة للتذكّر؟ حصة لسرد تاريخٍ عائلي قد يهمها أن تعرفه، ثم تأتي الخطوة الأخيرة؟ قلها، قلها أرجوك. تستغرب كيف انطفأ فانوس الغطرسة القديم واتّقد مكانه فانوسٌ أخرق، وكيف تقلّصت قناعات الدنيا كلها في قناعة هي في الواقع غير مجزية. تحثّه بالعيون، بالنظرات، باهتمامها المفتعل ببيت إرثه، بسؤالها عن عدد أخوته، عن أعمارهم، بألوانه المفضلة، باللغو. – هل هناك شيءٌ آخر؟ * نعم، أمي تريد رؤيتك.