12 سبتمبر 2025

تسجيل

محاسبة النفس بين السلف والخلف

07 ديسمبر 2012

إذا كنا نطمح حقيقة إلى نظرة جادة لا تعرف الحيف ولا المجاملة لإصلاح النفس، فإننا بحاجة إلى معيار نحتكم إليه ومثال بشري غير معصوم طبق طرق الإصلاح النفسي فنجا، وذلك لمعرفة القرب أو البعد من الطريق الأقوم للصلاح النفسي، لأنها معركة حقيقية بين الإنسان ونفسه الأمارة بالسوء، مطالب بأن يحملها على المطمئنة وهي تجذبه إلى ما يضاد ذلك، حتى يصير عياذا بالله يأتي الخير المحض ولا يؤجر عليه! وذلك لأنها استطاعت أن تجعل العمل محاطا بالرياء فحملت صاحبها على الإشراك مع الله عز وجل والله لا يقبل العمل الذي أريد به معه أحد، وما حديث الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم عنا ببعيد فقد كان أحدهم عالما، والآخر جوادا كريما، والثالث مجاهدا ومع ذلك أتت النفس بتقلباتها عليه فأشرك مع الله غيره في العمل فهلك ثلاثتهم نسأل الله السلامة والعفو. وهنا يتحتم علينا البحث عن معايير محددة لمعرفة حال المرء وهل هو على طريق النجاة أم الهلكة كما قال الله "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" وهي فيما أتصور ثلاثة معايير على ما سيأتي.. المعيار الأول: أن يكون العمل في الخفاء أفضل من العمل في العلن أو مساو له. هذا أحد المعايير الثلاثة لضبط العمل ومعرفة صحيحه من عدمه، أن ينظر المرء إلى عمله ساعة غياب نظر المخلوق هل يجد تعظيما للخالق وحرصا على الفعل أم لا، وإذا احتكمنا إلى سلف الأمة رضي الله عنهم نجد انهم كانوا من أحرص الناس على العمل الخفي هروبا من نظر المخلوق ورجاء في خلوص عملهم لله، حتى تحدثنا الآثار أن بعضهم كان إذا نشر مصحفه للذكر فدخل عليه رجل غطاه بثوبه حتى لا يراه وهو يقرأ! وأثر كذلك عن الربيع أنه ما رئي متطوعاً في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة، كان يجعل تطوعه كله في البيت حتى لا يرى. وذكر القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر في بالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟! إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج فإنا لنحج؟ حتى كنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ طفئ السراج فجأة، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يبحث عن شيء لإصلاحه وإيقاده، فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية وهذا الخفاء فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة. المعيار الثاني: إساءة الظن بالنفس مع الطمع في رحمة الله. كذلك من المعايير التي تخطم بها النفوس: محاسبتها وإساءة الظن بها وعدم الاغترار بما قدم بل الطمع والرجاء فيما عند الله عز وجل، خرج سيدنا عبد الله بن مسعود ذات يوم فتبعه الناس فقال لهم: "ألكم حاجة؟ قالوا: لا. ولكن أردنا أن نمشي معك؟ قال: ارجعوا فإنها ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع، فلو تعلمون ما أعلم من نفسي لحثيتم على رأسي التراب. هذا القول يقوله عبد الله بن مسعود وهو من هو علما وإخلاصا. وكان بكر بن عبد الله المزني إذا رأى شيخاً كبيراً في السن، قال: هذا خير مني، عبَدَ الله قبلي، وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب. المعيار الثالث: عدم الاغترار بالمدح. ومن المعايير التي يجب اتباعها عدم الاغترار بمن يمدحك، فما مدحك من مدحك إلا بما يظنه فيه من خير وأنت على يقين بما يحويه جوفك من شر أو من تقصير، والعاقل لا يدع يقين ما يعرف لظن من لا يعرف، ثم إن المادح ما مدحك إلا من ستر الله عليك، لذلك يقول ابن عطاء الله: إنما يمدحك من يمدحك لستر الله عليك فلا تشكر من مدحك ولكن اشكر من سترك، قال رجل لابن عمر: لا نزال بخير ما أبقاك لنا الله، قال: ثكلتك أمك، وما يدريك ما يغلق عليه ابن أخيك بابه. وقد أثنى شخص على الإمام أحمد فقال له: جزاك الله عن الإسلام خيراً، قال: بل جزى الله الإسلام عنا خيراً، ومن أنا؟ وما أنا؟ ورأي الغم في وجهه رضي الله عنه. وقال رجل لابن عمر: يا خير الناس وابن خير الناس! فقال: ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله أرجو الله وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه. بل كانوا رضي الله عنهم يجتهدون ألا يعرفهم الناس حتى لا يفضلوهم على غيرهم قال الحسن: كنت مع ابن المبارك يوماً فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج لي قال: ما العيش إلا هكذا، يعني: حيث لم نعرف ونوقر.