28 أكتوبر 2025
تسجيلالأموال والأولاد ملهاة ومشغلة، ومضيعة ومهلكة، إذا خلا صاحبها من قلب يقظ وفكر مستنير، مدركا غاية وجوده، مستشعرا هدفا سامقا يليق بتلك النفخة الإلهية، فيرنو ببصره إلى الله ليرضى عنه بالاقتراب والطاعة، وينظر أسفل منه إلى تلك الحياة بنعيمها ليسخرها في طاعة لله عز وجل، هو امتحان إذا بين النفس الدنية والأخرى السوية، وهي حرب كذلك بين نزعات كل منهما، وفي هذا السياق يأتي المال بوصفه أداة اختبار وتقييم بين تلك الأنفس، قال تعالى:{ وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصَّدق وأكن من الصالحين} وأمره أن يفعل ذلك بنفس راضية محتسبة غير متكبرة، وإلا فالبطلان والخسارة معا هو نصيب ذلك المتعالي: " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فمثله كمثل صفوان عليه تراب، فأصابه وابل، فتركه صلداً؛ لا يقدرون على شيء مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين . ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين؛ فإن لم يصبها وابل فطل، والله بما تعملون بصير } . .إن هذه الآية المعجزة في بيانها ترسم لنا صورة تحمل أبعادا ورؤى مختلفة: نقف في هذه اللمحة عند الصورة الأولى لها والتي تتحدث عن قلبين متضادين؛ الأول: ذاك القلب الذي غلب ثناء الناس على رضوان الله { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } . . فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته . ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء .هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله { صفوان عليه تراب } حجر لا خصوبة فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان .{ فأصابه وابل فتركه صلداً } . .وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته، ولم ينبت زرعه، ولم يثمر ثمره . . كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، لم يثمر خيراً ولم يعقب مثوبة!والصورة المقابلة لذلك القلب العامر بالإيمان، الذي ينفق ماله { ابتغاء مرضاة الله } . . وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير، فشبهه القرآن بالجنة الفيحاء، جاءها الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك . بل أحياها وأخصبها ونماها . . { فأصابها وابل فآتت أكلها ضعفين } . .أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء . جعلنا الله من هؤلاء .روى البخاري في الأدب المفرد من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن طريق الناس لك صدقة، وهدايتك الرجل في الأرض الضالة صدقة }ما أعظم دينا يجعل الباذل والآخذ في ميزان واحد، ويجعل الابتسامة والقول اللين أعظم أجرا وأنفع من الصدقة البعيدة عن هذا المسلك فيقول جل شأنه { قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى . والله غني حليم } . .إنه يقرر أن الصدقة التي يتبعها أذى لا ضرورة لها! وأولى منها كلمة طيبة وشعور سمح . كلمة طيبة تضمد جراح القلوب، وتفعمها بالرضا والبشاشة . ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة . فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة : من تهذيب النفوس وتأليف القلوب.إنه بذلك يؤسس قاعدة التكافل الاجتماعي والإخاء النفسي، فيقرر أن الصدقة ليست تفضلاً من المانح على الآخذ، إنما هي قرض لله { إن تقرضوا الله قرضا حسنا ... }إن ميدان الصدقة مفتوح لا يقتصر على بذل مال، بل الإعانة بالنفس من أنواع الصدقة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة ) فالإعانة هنا بدنية بالحمل معه أو شورية بالنصيحة إليه ( وأن تفرغ من دلوك في دلو أخيك )، أن تمده بفضل الحبل للدابة أو الحمل، إذا كان الحبل الذي معه قصيراً وعندك فضلة حبل فتعطيها إياه، وكل ما يمكن أن يوصل معونة للآخر، ولذا ورد في الأثر: (تهدي الرجل الطريق، تساعد العيي في القول، تسمع الأصم، ترشد الضال، تهدي الزقاق -أي: الطريق، وتهدي الورق؛ (كل ذلك صدقة)