19 سبتمبر 2025
تسجيللم تكن بورتسودان مدينة صغيرة في أي يوم من الأيام، لكنها مدينة حميمة. كانت تؤوي عشرات الأجناس والأعراق، يسكنها أهل شرق السودان من قبائل البجة، والبني عامر، الذين يعملون في تعبئة السفن وتفريغها في الميناء، يسكنها مهاجرون من الشمال احتكروا بعض الأنشطة، خاصة الخدمة العسكرية، وفيها مهاجرون هنود ويونانيون، ومن أقباط مصر، شكلوا مجتمعاً أرستقراطياً إلى حد ما، واحتكروا التجارة بأنواعها، وكان فيهم شخصيات شهيرة مثل: بوبو تاجر القماش القادم من مدينة مومباي الهندية، وكان أحدب ويلقبه الوطنيون بالخواجة (أبو ظهر). كان كل مهاجر في نظر الناس خواجة، حتى لو جاء من الهند. أيضاً مهندرا طبيب الأسنان، وهارون الذي أنشأ عدة صوالين لقص الشعر، وكان ثرياً يتدافع الناس على صوالينه، تاركين الحلاقين الوطنيين. كان يوجد يني، صاحب بار الملائكة، في وسط السوق، وفائق، صاحب خمارة أخرى، حولها إلى صيدلية حين انتهى بيع الخمور في البلاد، قبل أن يترك تاريخه، ويهاجر إلى أستراليا. ولعل سكان المدينة ما زالوا يتذكرون فهمي قرياقوس، أفضل خياط في المدينة. ذلك اليوناني الشهم، الذي اكتسب عادات البلاد كلها، بما فيها حلف الطلاق بسبب وبغير سبب، وامرأته التي كانت ترتدي الثوب الوطني، وتبدو كما وصفتها في كتابي مرايا ساحلية، كأنها لوحة وطنية، رسمت بريشة مستشرق. كنا نعيش وسط ذلك الخليط الغريب، كل له رونقه وطعمه والمدينة واسعة الصدر تحتفي بالجميع، كل معروف في حدود حيه، والشوارع التي يمشي فيها، لكن تذوق المدينة واحد عند الجميع. المستشفى واحد، يتعالج فيه الجميع، وصيدلية بيومي، التي يملكها صيدلاني من أصل مصري، هي المكان الذي ما زال يتوفر فيه الدواء المنعدم في الصيدليات الأخرى، قديمها وحديثها. أتطرق للأحياء المتعددة في المدينة، وقد كانت فيها أحياء معروفة في الماضي، مثل حي الإغريق وحي البحر، وحي العظمة، وحي الترانزيت، قرب المطار، وكانت ولا تزال أحياء راقية، تسكنها سلالات من أسر عرفت بالثراء، أحياء الوسط المخصصة للموظفين، ببنائها الكلاسيكي الصارم، وحي المدينة الذي يعد من الأحياء الكبيرة، ويقع قريبا من الوسط، حيث الإستاد الرياضي، والساحة الشعبية المخصصة لكل الأنشطة والمهرجانات، ثم تأتي أحياء الأطراف ومعظمها أحياء شعبية للغاية، يسكنها الفقراء ومتوسطو الحال، والآن تشعبت المدينة وتمددت، ونمت أحياء أخرى جديدة، بسكان من كل الطبقات، ولتفقد المدينة كثيراً من حميميتها القديمة.