17 سبتمبر 2025

تسجيل

بيت الغسيل

07 سبتمبر 2015

كان (بيت الغسيل) الذي أخذت إليه بعد ذلك، في الواقع سجناً مبنياً من خشب أشجار (التبلدي) المعمرة والقوية، وملحقاً بالكتيبة، ويقع مباشرة خلف خيمة مساعد القائد ديدام. يحرسه عدة أفراد من سرية (جبّارين)، إحدى سريات الكتيبة التي كلها من أبناء قبيلة (الفولاني)، حيث ينحدر القائد طلسم، ومعروفين بالشراسة وليِّ الأعناق حتى كسرها، ويتولى أمر المحكومين داخله، عسكري تدل نجومه على الكتف ونياشينه على الصدر، أنه برتبة قائممقام، كان اسمه (برهاني)، ولم يكن واحداً من جنود الحكومة الذين كانوا تحت إمرة (موسى عرديب)، وكانوا تحت سمعي وبصري ويتبعون لمجلسنا الحاكم حتى ساعة الغزو، ولعله كان قائداً في مدينة أخرى أو واحداً من المحاربين الذين نبعوا من الفقر وهوامش القرى، يرتدي زيًّا بلا ماض. كان المحاربون واعين بفداحة الثورة التي أشعلوها ضد حكم يملك الحديد والنار، ولا يملكون إلا الشرر، وهدير الحناجر، واعين بتمردات قد تحدث وسط فوضويين التموا هكذا بلا عدة ولا عتاد، وخيانات قد تنبع في وسط حراس ثورتهم، ومن ثم أنشأوا تلك السجون الخشبية، أسموها بيوت الغسيل، وألحقوها بكل الكتائب التي تحيط بمدينة السور، تماماً كالسجن الملحق بكتيبتنا وأُساق إليه الآن. كانت تعليمات القائد الحمّال واضحة في حقي، سلَّمها لسرية (جبّارين)، وسلموها بدورهم لمشرف الغسيل، أن أغسل من الشوائب التي لا تزال عالقة بعقيدتي، أن ينظف قلبي، وتنظف مشاعري حتى أُشفى. لم تكن ثمة وسيلة محددة للغسيل، لأن القائممقام هو الذي يحددها، ولا زمن معلوما لانتهائه، لأنه من يحدد الزمن. كان الداخل موحشاً بشدة، ثلاث غرف متماسكة بلا أسقف، فرشت بحصى مدبب يشتعل حين تشتعل الشمس، ولا ينطفئ حتى لو انطفأت. كانت حيطانها خشنة، وعليها أوتاد حادة يعلَّق عليها المغسولون، وعدة أسطال ضخمة مملوءة بمواد الغسيل موزعة هنا وهناك. عثرت على (ولهان الخمري) الذي لم أكن أعلم بوجوده بيننا، ولم أره من يوم ارتعاشنا في السوق الكبير، حين كان يبكي بعينيه وثدييه الضخمين، مثبتاً إلى أحد تلك الأوتاد، وعلى ثدييه المتدليين كثدي امرأة، آثار عناكب، رضعت وارتوت وذهبت، واستغربت كيف يغسلون رجلاً كولهان، وماذا ينتظرون من وراء غسله، وهو الذي لا تجدي سوائل الدنيا كلها، في تنظيف ساعة واحدة من ساعات عمره الذي تجاوز الستين، قلت للقائممقام برهاني، حرره.. حرره يا شيخ، وخلت نظراته الملتهبة، تذكرني بموقعي في الكتيبة، وموقعي الحالي في ضيافة غسيله، شممت آثار أجساد شويت، وآثار عيون اقتلعت، وكانت دهشتي عظيمة حين عثرت على (ودعة) المصَّاص، معالج السموم وتشنج العضلات، ولم أكن قد انتبهت إلى غيابه عن المعسكر. كان مغروساً حتى عنقه في سطل ممتلئ بالقار وبراز العناكب، ويصرخ في جنون.