12 سبتمبر 2025
تسجيلها هو ذا اليوم عوداً فتياً، يتفجر عنفواناً وطاقة، واندفاعاً وشغفاً بالاكتشاف والمغامرة، ها هو وقد اشتد ساعده واتقد صلابة وجسارة، وتحول من ريشة تتلاقفها رياح الفكر والعادات والتقاليد والأوامر الملقاة على مسمعه من هنا وهناك، إلى أسد يزأر فيهتز في سماء صوته كل ما قد كان الآخرون يحاولون تغذيته به من مختلف الآراء والمعتقدات، فيفرغ كل ما امتلأت به أحشاء عقله في وجه المجتمع، وهكذا يسير المجتمع في دوامة تعاقب الأجيال، التي تحاول باستماته إثبات أن كل ما خيَّم في أذهانها صحيحاً، أو ربما عانت من جائحة الازدواجية التي تفتك بروح وعقل أصحابها، في محاولة للتكيف فيما تؤمن به وتصدقه منفردة، وما تركن إليه الجماعة، أو ربما قاسى شتات الفكر وشقاءه، في تعديل وترميم ما اهترأ وسمل من مفاهيم وتصورات معقوفة. وعندما أتى إلى هذه الحياة كان يتوقع أن تطوقه أذرع الأيام بالحنان، وتطبطب عليه في حضن دافئ كالذي تكوَن فيه، لم يكن يتخيل أبداً، تلك القسوة التي كانت تتربص به في كل زاوية من زوايا العمر، وتلك العقد العضال التي كان عليه أن يتحمل عبء حلحلتها والتخلص منها أو القبول بها والتعايش معها، ومن أكثر تلك العقد فتكاً، وأوسعها انتشاراً، وشراسة هي عقدة الناس، التي كانت ولا تزال تقبض على تدابير حياته بقبضة فولاذية، وممتلكة لمشيئتها امتلاك السلطان لروح عبيده، سراقة للذة التي فقدها عندما فقد حقه البديهي المتفرد في البت في كل شائبة تحاول أن تأخذ حيزاً في وجوده، كما زاحمته في تشكيل البيانات التي يرسم من خلالها خريطة طريقه في هذه الحياة، وأصبحت بعداً أساسياً متناقضاً في بلورتها، متحصنة بسلطة العرف، ونفوذ التأثر والتأثير، الذي يوجد نوع من التقليد القهري لإرضاء حاجات نفسية عميقة الجراح، كأنها ردم محموم للهوات السحيقة التي تتسع داخل النفس، فيتوهم بذلك الشعور المزيف بالثقة العالية بالنفس، والرضا الذاتي. ومقابل ذلك تمنعه من الاستمتاع بشكل الحياة التي يتطلع إلى عيشها، فتولد حالة من توهان الذات وتمزقها أشلاء متناثرة بين فكي الرغبة الفردية والإرادة الجمعية. فتبدأ الأسئلة التي تلح دون هوادة، وتطارد الفكر كالأرواح الشريرة التي تفرض سطوتها على العقل فيبقى في حالة هلوسة مزمنة، فتنازع الأفكار بأسئلتها التي لا تهدأ قبل أي أمر يقبل على فعله: ماذا سيقول الناس لو... ؟ ماذا ستكون ردة فعلهم لو... ؟ كيف ستكون نظرتهم لك لو... ؟ كثير من "الولولات" تولول وتطبل على رأسه تقدر أحداث حياته، ويعجز السهد جفونه، فمذ مبتدأ تكوينه كبرعم زهري نضر، يتحصل على التطعيمات الضرورية بأهم قواعد الأمن والسلامة للتوافق مع مجتمعه، وكيف يحافظ على المعادلة المقدسة الأبرز، فهو يعيش حياته في محاولة لشراء ود الناس، كأصل استثماري ضروري للمضي قدماً في إجراءات دخوله لهذا المجتمع التنافسي، فيتعلم في أولى صولاته معنى الانحناء لرغبات لا توافق رغباته، ومبادئ تخالف مبادئه، واعتقادات وموروثات تعقد يديه بقدميه، فكل خطوة يتخذها في هذا السبيل تعمق حدة التنافر مع الرغبات المطموسة في داخله، ومع ذلك يستمر خانعاً، لعل استسلامه يسد فراغات حياته، ويرمم ثغراتها، ويعوض من خلاله نقص شخصيته، فقد يسرف من الوقت والمال لكي يلبس ما يعجبهم، ويقرر أن يستدين حتى يقتني سيارة جديدة فارهة، وآخر طراز، ذات رقم مميز، حتى ينال شرف ذلك الإحساس الكاذب بالامتلاء والزهو بينهم، ويبحث عن التخصص الذي يقبله الناس ويعتز به في محيطهم، ويتجاهل التخصص الذي يناسب ميوله، ليتمتع بفرصة لإثراء هذا الميول، وبالتالي يتفجر الإبداع بين يديه، وما أحوج الوطن للمبدعين، وأصحاب المهارات المتخصصة، فقد فاض قطاع العمل بالتخصصات الرتيبة التي لا تضيف أي قيمة تذكر، ولا تنهض بالتطلعات الكفيلة بخدمة الوطن، وإخوته من بني البشر، ولا ينفك ينفق الأموال ويبذر الثروات للتفاخر والتباهي أمام القطيع الذي اختار أن يختبئ تحت عباءته، سلسلة من التنازلات يقدمها طوعاً ليحيا حياة لم يختَرها، بينما هي أشبه بثوب مزخرف فصل بطريقة عشوائية اختلط فيه الحابل بالنابل، فيكابد في البحث عن طريقة للبسه ليكون مناسباً له. فماذا لو تحولت الغاية من معناها الضيق التافه إلى المعنى الأشمل الأعمق؟ من رضا الناس إلى رضا الله أولاً ورضا نفسه ثانياً وخدمة البشرية ثالثاً، في إجابة عن الأسئلة: ما الجديد الذي سأضيفه لمجتمعي؟ وما هي قيمتي السوقية في هذه الساقية؟ وكيف أكون مفيداً لهذا العالم؟ وما يزيد الأمر مرارة، أنه يتماهى برشاقة مع هذه العقدة بل ويبرع في حلحلتها بطريقته، والتفنن في مسايرتها، بل ويكون سلسلة عقد وليدة ومبتكرة لا متناهية، فلا يجد بأساً أن يمشي حاملاً مفهومها معه في كل مكان، فهي واحدة من أساليب الحياة واللايف ستايل الذي جُبل عليه مهما كان تأثيرها وغداً، وأساليبها سافلة معتوهة، فيسير في حلقات من العقد تصل معه إلى دائرة العمل، فالناس يعجبهم صاحب الوظيفة المرموقة، الأمر الذي يدفع صاحبنا بأن يفعل أي شيء حتى يصل إلى منصب يشرفه بين الناس، فيغيب عنه أن المنصب يشرف بالإنسان لا العكس، وهذا من غباء العقول ومضيها في فجورها، فيشرع في تقديم مساهمته في إفساد الأرض بطريقته الخاصة، وقد نُهي عن ذلك من صاحب الأمر جل جلاله، وقد يكون في هذه الحال مغيباً لا يدرك ما يفعل، فمتى أدرك المخدر ما يفعل؟! فيظلم هذا، ويمنع عن ذاك، ويستبيح ما ليس له، ويطال ذلك أساسيات المهنة فهو يجامل ويداهن على حساب الواجب، فالعمل يأتي في نهاية سلم اهتماماته، فإرضاء رؤسائه الكبار هو الهدف الجوهري الذي يسعى خلفه، وبالتالي فأمام إغراء المناصب وسحر السلطة وإدمان التسلط، يسهل عليه خيانة الأمانة، ثم أن للأمانة أشكالا وصورا، فصيانة الحق العام أمانة، وحفظ حقوق العاملين أمانة، واتخاذ القرار الأفضل للمصلحة العامة أمانة، والمحافظة على مبادئ العمل أمانة، والمساواة بين الفرص أمانة، ومن يجعل الدنيا والناس مبلغ همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، فمن لحق الناس حتى يرضوا عنه فلن يطاله سوى السب وغضب الرب، فإرضاؤهم من المعجزات، فقد ميز الله كل إنسان بشكل وفكر مختلف عن الآخر، فإذا كان الاختلاف هو الفطرة فكيف سيجتمع الكل على الجزم بأمر ما دون وجود من يعارض ويمنع ويجادل؟! وقد يعلم تمام العلم أن ما يفعله هو الخطأ بعينه ولكنه ينهزم أمام إرادة الناس وقناعاتهم، وتنتحر أي فكرة أمام شراسة أعرافهم البائسة، فهم قضاة الدنيا ومفتوها، ولذا وصل حكم طاعتهم حد الوجوب. فلكل مطالب بالحرية، مناد لمبادئها، مستبسلاً في تطبيقها، أنت كمن يكتب شريعته على الرمال، فآثارها تتلاشى قبل أن تجيب عن السؤال: هل حررت رقبتك من عبودية البشر؟ هل قهرت أغلال السعي عند سلطان الناس؟