14 سبتمبر 2025
تسجيلgoogletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); منذ أكثر من قرن تشهد صحيفة هيرالد تربيون بأهمية السودان على المستوى العالمي. وهيرالد تربيون هي الصحيفة الأهم بين كل الصحف التي تصدر بالإنجليزية وفق عوامل موضوعية؛ فهي تمثل في الغالب رأي المثلث الغربي الأفعل إذ أنها أمريكية الملكية، بريطانية اللغة، وفرنسية مكان الإصدار. وعندئذٍ فهي تعبيرٌ شاملٌ عن إستراتيجيات الغرب إن سبرت أغوار معالجاتها تحليلًا. وهي تخلو إلى حد ما من كثافة الإعلان وطغيانه. وهي التي احتفت بالأخبار منذ صدورها عام 1887 عندما رسخ ذلك مؤسسها جيمس غوردون بينيت بقوله: "الأخبار.. الأخبار.. مزيدًا من الأخبار"، متحديًا بذلك نمط صحافة الرأي السائد في كل من بريطانيا وأمريكا آنذاك، وفوق كل ذلك فهي الأكثر انشغالًا بقضايا العالم. وأذكر هيرالد تربيون وذكرى "كرري" على الأبواب.. ففي يوم الجمعة الثاني من سبتمبر المقبل نستقبل ذكرى معركة "كرري" عندما اقتحم الجنرال كتشنر مداخل أم درمان، وقد تسلح وجيشه بمدافع المكسيم الأحدث والأكثر فتكًا في عصرها، وبرغبةٍ مهووسةٍ في الثأر لهزيمة واغتيال سلفه الجنرال غوردون، ومن ثم إعادة السودان لهيمنة التاج البريطاني. أما النتيجة فقد كانت استشهاد ما يقارب 22 ألفًا من جنود السودان من الأنصار خلال ساعتين فقط! ألا يحق لنا مطالبة بريطانيا بالاعتذار ودفع التعويض عن خسائرنا بما فيها احتلال بلادنا لأكثر من نصف قرن؟ أو ليس ذلك هو قمة العدل؟ وهل تسقط مثل تلك الجرائم بالتقادم رغم عدم استكمالها لما يطلق عليه فقهاء القانون "حجية الأمر المقضي فيه"؟ وأهمية السودان منذ أمد يقررها موقعه الجيوبوليتيكي ودوره. فهو الفاصل بين إفريقيا شمال الصحراء وجنوبها. وهو الممتد من الشمال الإفريقي حتى الوسط، ومن الشرق الإفريقي حتى الغرب، وهو من تجتمع عنده كل تلك الشعوبيات بأعراقها وثقافاتها منذ أزل التاريخ. وهو فوق ذلك صاحب الثورة الأعظم ضد الاستعمار التي حققت النصر عنوة واقتدارًا فألهمت الشعوب المستعمرة عبر العالم أهزوجة انتصار الإرادة على العدة والعدد. وهو من هتك خيلاء الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس وعرَّى غطرستها. وخلال عام 1994 أصدرت صحيفة هيرالد تربيون مطبوعةً شملت أهم 150 صفحة أولى من إجمالي حوالي 35000 صفحة أولى منذ صدورها عام 1887، بمعنى اختيار صفحةٍ من بين كل 233 صفحة. وعن عملية الاختيار فقد اعترفت الصحيفة بصعوبتها وأضافت: "ورغم تلك الصعوبة فإن ما تم اختياره تطرق للأحداث والشخوص ألأكثر أهمية خلال القرن". وطبيعي أن من أسندت لهم عملية الاختيار هم من المؤرخين والإستراتيجيين الأخبر بأهمية الأحداث ومواقعها، إذ إن أهمية الحدث لا تنفصل عن أهمية موقعه. ووفقًا لتقديرات الصحيفة الغربية الأولى، فقد احتلت معركة "كرري" واحتلال الخرطوم ما يقارب ثلث الصفحة الأولى لإصدارة الصحيفة بتاريخ الأحد 4 سبتمبر 1898، أي بعد يومين من المعركة. ولم تقف أهمية الخبر عند منحه تلك المساحة وفي الصفحة الأولى، بل إن تلك الصفحة تم اختيارها من بين 233 صفحة أولى! ليس ذلك وحسب، بل إن الصفحة الأولى تلك احتلت الصفحة السادسة بالمطبوعة بحيث لم يسبقها حدثٌ آخر لا على المستوى العربي ولا الإفريقي، بل إن أول حدث عربي احتل الصفحة الأولى وشمله الاختيار، فقد جاء بعد حوالي تسعة عشر عامًا وتمثل في احتلال بريطانيا للقدس من الدولة العثمانية.. هل تقول تلك المفارقة شيئًا؟! أما ما ورد لاحقًا فقد شمل العدوان الثلاثي على مصر، واستقلال الجزائر، وحرب الأيام الستة العربية الإسرائيلية، ثم إلقاء الزعيم ياسر عرفات خطابه في الأمم المتحدة، ثم اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، ثم مصرع عددٍ من مشاه البحرية الأمريكية في الهجوم الانتحاري ببيروت، ثم حرب تحرير الكويت عام 1991. وأهمية السودان تظهر حتى في راهن مواقفه الحالية ومواقف المنظومة الغربية تجاهه، فقد أثبت التاريخ الحديث أنه الجذوة والحيوية نحو الفعل الإيجابي على المستوى الإقليمي. فهو من ألهم ثورات إفريقيا أن النصر ممكن، وهو من احتضن قيادات التحرر الإفريقي، والدليل الأبلغ هو استقباله للمناضل نيلسون مانديلا ودعمه ماديًا، ومنحه جواز سفرٍ سوداني طاف به العالم يوم أن كانت أمريكا وبريطانيا تصنفانه وحزبه المؤتمر الوطني الإفريقي كإرهابيين. ودور السودان في معتركات العرب ليس بالأمر الحادث؛ فقد كان جنود السودان في حرب عام 1948، وفي حرب الأيام الستة، وفي حرب رمضان 1973. وقمة اللاءات الثلاث تقف شاهدة على احتضان السودان الحلم العربي الكبير وهو يصالح بين الراحلين الملك فيصل والرئيس جمال عبد الناصر. ورغم أن السودان لا يستمد أهميته من شهادة هيرالد تربيون؛ فإنها تكتسب أهميةً لأهمية الصحيفة، ولأنها لسان حال الإستراتيجية الغربية. وأخيرًا لأن إعلام الغرب أصبح يصدق ويقبل به حكمًا في بلادنا أكثر من إعلامنا لاسيَّما من المتغرِّبين. وبعد.. هل هناك من لا يزال يستغرب وجود السودان في عاصفة الحزم؟