13 سبتمبر 2025

تسجيل

حياة أخرى قبل الحياة الآخرة

07 يونيو 2022

يفكر الناس في أحوالهم بعد خمس وعشر سنوات، بل ويضعون الخطط لما سيكون، ويريدون أن يكون في حياتهم وفي تأثيرهم حول العالم. ولكن ماذا عن الحياة بعد مائتي سنة من الآن؟ هل يتخيلها أحد؟ هل يركض أحد وراءها ويخطط لها؟ الجميع يريد أن يعيش إلى الأبد ولكن لا أحد يتخيل حياته أبعد من خمسين سنة!. الواقع هو أننا سنكون على الأغلب منسيين بعد مائتي سنة. لن يذكرنا أحد حتى أحفاد أحفادنا وأبناء أحفاد أحفادنا، إلا الخالد منا ذكره والعظيم منا في أثره! وهذا الأثر والذكر الذي لا يُنسى. لا يُشترط به أن يكون عظيماً أو كبيراً أو أن يكون الشخص مشهوراً أو ذا شأن حتى يكون له أثر وذكر. يوجد الكثير من الناس غير المشهورة التي لا يزال ذكرها حيا حتى الآن على اللسان. الجد الثالث الذي ورثكم الأرض التي تعيشون عليها اليوم ذو أثر عظيم. معلم المدرسة الابتدائية الذي حببك في الرياضيات والعلوم حتى أصبحت مهندساً وابنك فناناً، ذو أثر عميق. لا يلزمنا أن نفعل أشياء عظيمة أو أن نصبح مشاهير حتى يصير لنا آثارنا وذكرنا بعد موتنا. فأحياناً يكون للأمور الصغيرة الأثر الكبير. كلنا نعرف الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي اشتهر عنه أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً والذي كان له جميع المقومات لكي يغطي نوره أي شخص حوله، ولكن نجمه لم يحجب نور زوجته زبيدة بنت أبي الفضل جعفر بن أبي جعفر المنصور، التي عرفها القاصي والداني من حجاج المسلمين في وقت من الأوقات، ويسمع بها الكثير من المسلمين حتى الآن. هذه الأميرة التي حجت في سنة ١٨٦ هجرية ورأت بعينيها مصاعب الحجاج في حمل الماء والعثور عليه في طريقهم إلى مكة مما جعلها تأمر بحفر قنوات مائية تسد عطش الحجاج وترويهم خلال رحلتهم إلى مكة. ولا تزال عين زبيدة موجودة حتى اليوم ومتواصل ترميمها. ومن السعودية إلى مصر وعهد السلطان المنصور قلاوون الذي بنى مجموعته من مسجد ومستشفى وقبة ومدرسة في ١٣٠٣ هجري. فقال عن وقفه الذي بناه من مستشفى ومدرسة: "وينتصب كل معيد ممن عُيّن في جهته لأهل مذهبه لاستعراض طلبته، ويشرح لمن احتاج الشرح درسه ويصحح له مستقبله، ويرغّب الطلبة في الاشتغال، ولا يمنع فقيهًا أو مستفيدًا ما يطلب من زيادة تكرار وتفهم معنى، ولا يقدم أحدا من الطلبة في غير نوبته إلا لمصلحة ظاهرة، ويشتغل كل واحد من الطلبة بما يختاره من أنواع العلوم الشرعية، ويراه المدرس له على مذهبه، ويبحث في كل ما أشكل عليه من ذلك، ويراجع فيه، وأن ينظر المدرس في طلبته ويحثهم كل وقت على الاشتغال، ويجعل من يختاره نقيبا عليهم، ويقرر له ما شاء". ولا أروع من هذا الإخلاص والحرص في ترك أثر طيب، وقد قال ابن بطوطة عن هذا المستشفى عند زيارته لمصر: "لا وجود لمبنى يشبهه في بلاد العرب والترك والعجم". ولا يزال حتى اليوم هذا المستشفى وهذه المجموعة منتصبة في القاهرة كمعلم سياحي شامخ. وأنت.. ماذا تريد أن يتذكرك الناس به؟ ما الأثر الذي تريد به أن يتعدى سلالتك الجينية؟ ما الحياة الأخرى التي تريدها لنفسك بعد حياتك هذه وقبل الحياة الآخرة؟.