14 سبتمبر 2025
تسجيللأبي مسلم الخراساني أبيات غاية في الروعة، تظهر لك مع روعة الكلمات عمق العبارات، سأله يوما أحد جلسائه قائلا: بأي شيء أدركت ما أدركت؟ قال: ائتزرت بالحزم، وارتديت بالكتمان، وحالفت الصبر، وساعدني القدر، فأدركت مرادي، وحزت ما في نفسي، ثم أنشد هذه الأبيات.أَدْرَكْتُ بالحَزْمِ والكِتْمان ما عَجَزَتْ *** عنه مُلُوكُ بني مَرْوانَ إِذْ حَشَدُوا ما زِلْتُ أَسْعَى عليهمْ في دِيارهُمُ *** القَوْمُ في مُلْكِهِمْ في الشَّام قَدْ رَقَدُوا حتَّى ضَرَبْتُهُم بالسَّيفِ فانْتَبَهُوا *** مِن رَقْدَةٍ لَمْ يَنَمْها قَبْلَهُمْ أَحَدُ ومَنْ رَعَى غَنَماً في أَرْضِ مَسْبَعَةٍ ***ونامَ عَنْها تَوَلَّى رَعْيَها الأَسَدُ إن الناظر في المجتمعات يجد أنها تنقسم فيما بينها إلى نخبة وعوام، وعلى النخبة عادة مسؤولية النهوض بالمجتمع وعلى المجتمع كذلك الالتزام والتعايش والتعاون، فالكل إذن مسؤول فردا أو مؤسسة أو جماعة، لكن ومن خلال الأحداث والأزمات التي تقع على الأمة نجد أن المسار الفكري ينحرف في اتجاه لوم زيد أو عبيد، وإلقاء التهم صحيحة كانت أو خطأ على هذا أو ذاك، دون أن تنحرف البوصلة إلى الذات، دون أن تكون هناك مراجعة ذاتية ومحاسبة وتحمل للمسؤولية، فليس العيب في الخطأ وإنما العيب في عدم الاستفادة من الخطأ بمراجعة أسبابه وتقويم اعوجاجه والنهوض بالمسؤولية التي أوجبها الإسلام على كل مسلم. كما أن الناظر في الشريعة الإسلامية يجد النبي صلى الله عليه وسلم يبين صراحة أن كل فرد مسؤول ومحاسب أيا كان حجمه في المجتمع الذي يعيش فيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ) . قال وحسبت أن قد قال ( والرجل راع في مال أبيه ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته }إن هذا الحديث المتفق عليه يبين بجلاء أهمية الدور الذي ينبغي أن يلعبه كل فرد في المجتمع حماية لنفسه وحفاظا على أهله وصيانة لمجتمعه، ولهذه الرعاية أهمية في الأمان المجتمعي والديني والسياسي والاقتصادي والتربوي للشعوب، ولأهميتها بدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم حديثه وختمه بها إذ قال في البدء (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وختمها: (وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، وفصل فيما بين ذلك نماذج أربعة: النموذج الأول هو حديث عن النخبة أو القادة، والبقية حديث عن المجتمع بكافة أشكاله.النموذج الأول: الإمام الذي هو رأس هرم الدولة والذي هو القائد العام لها، مسؤول عن هذه الأمانة في يوم لن ينفعه فيها أحد، ولا يبتعد عن هذا الوصف أهل الفكر وعلماء الشرع وكل متبوع، فهم القدوة وهي وصف لازم للإمام، والمتتبع للفظ الإمام في القرآن يجد أنها تنصرف لأهل القيادة سواء كان الاقتداء بهم في الخير أو كان في الشر، قال الله تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} وقال عن ذرية نبي الله إبراهيم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} فأخبر بأنهم أئمة يقتدى بهم في الخير، وقال في بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} . وحكى الله تعالى عن المؤمنين أنهم دعوا وقالوا في دعائهم: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} فكل ما ذكر أئمة ينبغي أن يؤدوا حق الله في رعيتهم، ولا شك أن أمانة الرعية خطيرة وشديدة .ثم الصنف الثاني وهو الرجل على أهل بيته، إنه المجتمع الصغير المكون من زوجة وأبناء وأنفس في حجر هذا الرجل، هو مسؤول عنهم بين يدي الله وماذا قدم لهم؟ إن كثيرا من الآباء يهتم بالمظهر على الجوهر فتجده يهتم بنمو ولده بدنيا ولا يهتم بنمو تدينه وعقله، يستثمر له وكان خيرا له أن يستثمر فيه ليكون غدا قائدا ومعلما وموجها ومربيا، وفوق ذلك كله ليكون بعيدا عن نار تلظى وجحيم تسعر.إن البعض يتهرب من المسؤولية بوضع ولده في مدرسة هنا أو جامعة هناك ظنا بذلك أنه أدى ما عليه، والمدرسة والجامعة على فضلها وأثرها - إن كانت سليمة المعتقد محصنة الفكر!!! - لا تخرج وحدها الأنموذج المبتغى، بل إنه البيت هو مصنع الرجال إذا أحسن هو وزوجه على حد سواء الاهتمام والرعاية والتربية فهي معه مسؤولة عنهم .لا يحق للمسلم أن يضيع من يعول أو أن يجعل من الذئب حارسا للغنم في يوم كثرت فيه الذئاب وتلونت وتعددت وشكلت خطرا يفوق خطر السباع الضارية، إن ذئاب عصرنا أضحت في الشوارع والصحائف والجرائد والإعلام ودخلت لتشاركنا أبناءنا فاقتحمت بيوتنا عن رضا منا أحيانا وعن كره أحيانا أخرى.وليس من الصواب أن يدفن الرجل رأسه في الرمل أو يدعي أنه لا حيلة له على فعل شيء تاركا سفينته تسير إلى الهاوية. لقد عاب القرآن هذا المسلك، حين أقر الضعفاء بالعجز والاستكانة والخنوع والذلة وساروا خلف الظالمين والفاسدين في الأرض حتى هلكوا جميعا وتشاركوا العذاب .{ وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ* وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.وقال أيضا {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ }. " إن الأمان الاجتماعي والاستقرار النفسي لا يأتينا بجرة قلم بل لا بد من صنعه بأيدينا ونحن في معركة الحياة لا نلقي باللائمة على غيرنا ونحن عجزة عن فعل ما يقينا ويقيهم شر كل ذي شر.