11 سبتمبر 2025

تسجيل

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ!

06 نوفمبر 2023

في معرض قصة طالوت وجالوت؛ جاءت هذه القاعدة المحكمة لتكون كلمة الفصل في تفضيل الكيف على الكم! وأن الأخير لا سلطان له- وإن كثر عتاده وعدده- أمام القلة حين تكون مؤمنة؛ فالتفاضل بالكثرة مبدأ مهدر في التصور الإسلامي، نفهم هذا من قول الله:( وَإن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ (في مقابل قوله: ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) فالفئة المؤمنة هي المنتصرة- قل عددها أو كثر- متى ما قررت صعود الدرج الشاق، وتحملت مشاقه وآلامه. تمضي القصة لتخبرنا أن الفئة القليلة هي الواثقة بموعود الله المنتظر، وهي وحدها التي تقرر مصير معاركها، وحدها التي لا تزلزلها كثرة عتاد عدوها، ولا توهنها خذلان بني جلدتها، ولا تضعفها قلة أعدادالمنتسبين لها؛ لأنها تبصر الفجر القريب في ظلام الهول الرهيب، بمنظار ثابت لا يخيب. لذا فإن صناعتها تحتاج إلى مراحل إعداد شاقة لابد فيها من اجتياز اختبار وتجاوز ابتلاء، يسقط فيه الكثير!! تظهر تلك المراحل في قصتنا لتخبرنا أن المعركة بين الحق المتمثل يومها في (طالوت) والباطل المتمثل ساعتها في (جالوت) من خلال خمس مراحل: 1- تحديد الوجهة الصحيحة وتصويب الهدف. 2- إنكار الذات، والانتصار للحق. 3- الصبر على الطريق مع السمع والطاعة. 4- الثبات عند الخذلان. 5- الاستعانة بالله وحده لا غير. أما تحديد الوجهة فقد تحدثت عنها بداية الآيات (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الوجهة هنا بينة الوضوح: قتال في سبيل الله لاسترداد الحق المسلوب ! فكان الامتحان لزاما ولابد (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) سؤال طرحه نبيهم؟ فتعجلوا الإجابة: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) لكن حين: (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ)! ثم بعد تحديد الوجهة جاء اختبار ثان: إنكار الذات (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) ثاروا وانتصروا لأنفسهم فقالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) فطالوت ليس من أبناء الملوك ولا من بيت النبوة، فكيف يكون ملكا علينا ونحن أحق منهّ؟!! انتكاسة أخرى، خرج معها أكثر البقية وبقيت قلة القلة! فكان الاختبار الثالث: الصبر على الطريق مع السمع والطاعة (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) هكذا كان الأمر، فماذا فعلت قلة القلة؟ (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) خالفوا الأمر فكانت الانتكاسة الثالثة لقلة القلة، ليبقى بعدها أقل قليل القليل! ثم الاختبار الرابع: الثبات عند الخذلان: وقد ظهر حين قالت القلة (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) فكان جواب الفئة المختارة (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ثم عند المبارزة والالتحام قالوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) الآن حانت البشارة: ( فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) يذكر التاريخ أن الفئة التي حددت الوجهة الأولى كانوا قبل الاختبار مائة ألف! وبعد الاختبار كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من مائة ألف! فلا يوهن عزمك كثرة عدوك، ولا يضعف ثباتك قلة المناصرين وكثرة المتساقطين، وسل الله دوما أن يجعلك من القليل وأن يريك الحق حقا وأن يرزقك اتباعه.