13 سبتمبر 2025
تسجيلمع إطلالة العيد، تقفز إلى الذهن تلك الأيام البعيدة، حين كان للعيد لونه وطعمه و مائدته الغنية التي يبسطها على الأجواء، لينهل منها الجميع. كان عيدنا في المدينة الساحلية، تلك المدينة الزهرة كما أسميها برغم صيفها الجحيمي، وجفافها المر، وطائر الغراب الذي يحلق في سمائها باستمرار، راسما بؤسا غريبا.. في تلك المدينة ولدنا وعشنا وعملنا، وأكاد شخصيا أعرف كل شبر فيها حتى بعد أن امتدت وترهلت بالبنيان، وتشعبت لغاتها بفعل ألسنة المهاجرين الجدد الذين وردوا من شتى بقاع البلاد. كان عيدنا شخصيا ملقى على عاتق العم (صابر)، الذي كان في ذلك الوقت شابا نحيلا جدا، يحب العطور والأناقة ويدرس في كلية الزراعة.. كان يحرص على القدوم من العاصمة في كل عيد.. في قلبه حب كبير تجاهنا، وفي قدميه استعداد غريب لتقودنا جميعا إلى ساحة العيد حيث متعة الصغار التي تبدأ من شروق الشمس وحتى غروبها.. كانت ساحة العيد ملتقى للهوس والضجيج وألعاب الحواة والسيرك وكثير من الحلوى المصنعة محليا وأيضا أحاييل الحظ التي قد تكسبك قرشا أو قرشين.. نفس الجو السحري الذي قرأته بعد ذلك في رواية (إيرنديرا الغانية) لجابرييل ماركيز.. كأن ماركيز كان يكتب تلك القطعة الملتهبة من مدينتنا في ذلك الزمن البعيد.. بصبر شديد من العم صابر، كان عيدنا يمر سلسا.. نتأرجح في أرجوحات الحبال الطائرة أو تلك التي تدور، نكسب بعض القروش من لعبة التنشين أو رمي القرش على الغربال، نشاهد (الزوحي) الذي كان حاويا شهيرا في تلك الفترة، يتحدث من بطنه، يحول مناديل القماش إلى طير يطير، أو يشق فتاة مبتسمة إلى نصفين.. وحين تغرب الشمس، نشترى الحلوى المحلية من نساء متخصصات فيها ولا يظهرن إلا حين يظهر العيد. في أحد تلك الأعياد، وكنا قد كبرنا قليلا وصار بإمكاننا غربلة العيد واستخراج برامج أخرى من جوفه، وانتقلت مهمة العم صابر إلى إخوة أصغر يقودهم في بهجة العيد بنفس صبره ودأبه، لم يظهر عمنا، ولم يظهر بعد ذلك أبدا.. فاجأته نوبة من نوبات الربو الموروث لدى العائلة، ومضى في أحد المستشفيات البعيدة دون حتى أن يودع أحدا. الآن أتذكر العم صابر جيدا. أتذكره برغم أكثر من ثلاثين عاما تفصل بيني و بين آخر عيد قضيته في صحبته. كان في ذلك العيد، يرتدي بنطلونا رماديا، وقميصا أزرق مخططا بالأبيض ويضع على عنقه منديلا معطرا بالياسمين، كان وضعه من سمات الأنيقين في ذلك الزمان.. أتخيل كهولة ربما كانت تشبه كهولته لو عاش، وأتشوق لسماع تعليقه عن الأعياد التي لم تعد تحمل اللون والطعم وما عادت حافلة بتلك الموائد التي ينهل منها الجميع.