11 سبتمبر 2025
تسجيلخيم الظلام تماما بعد غروب الشمس، ففي ذلك الشارع المنزوي في شرق تلك المدينة الإفريقية الوادعة ما كانت مصابيح الشارع مضاءة، للتنقل بشكل أكثر وضوحا، ما عاد لتلك المصابيح أثر، بعد أن سطا عليها اللصوص والمحتاجون، وباعوها في سوق الخردة، لقاء ثمن بخس، لا يتعدى بضع لقيمات من طعام رديء.جلس كونتا وصديقه موساكا، بمقهى حقير في ذلك الشارع، والذي كان مضاء بمولد كهربائي يعمل بربع طاقته، ورواده من العاطلين عن العمل، أو رجال العصابات، والباحثين عن المتعة الحرام، كانا يشربان ما يسميانه خمرا، وما هو بخمر، لعلهما ينسيان بعضا مما يكابدانه.فلكل منهما أسرة ممتدة، تنتظر طعاما وشرابا، عز وقل، منذ أمد ليس بالقصير، بسبب نيران المجاعة، والبطالة التي تعصف بتلك القرية، والسبب في ذلك الحرب اللعينة، كما يقول موساكا.في تلك الليلة، عاد موساكا للماضي، أيام الحرب، وهتف ضاحكا، وهو يقول لكونتا: تخيل يا صديقي، لو كنا واجهنا بعضنا قبل اثنتي عشرة عاما أثناء تلك الحرب اللعينة، الشيطانية، لكان أحدنا قتل الآخر، فأنت كنت مع الحكومة، أما أنا فكنت مع المتمردين، أنت كنت تدافع عن هراء اسمه الوطن، وأنا كنت أبحث عن هراء آخر يدعون أنها العدالة، هل تذكر.انفجر كليهما ضاحكين، فقد كانا يعيشان ما يمكن تسميته بالكوميديا السوداء، قبل سنوات قام أحد زعماء المعارضة، بإثارة حمية القوم، ودعا لإسقاط الحاكم، متبنيا شعارات فضفاضة، مثل العدالة، ومحاربة الفقر، فنهض معه الآلاف من المراهقين والمعدمين، على أساس أن الحرب خير من الموت فقرا، وجوعا، وكان موساكا ضمن من تطوع لتلك الحرب.أما كونتا فاستيقظ ذات يوم على نداءات الإذاعة، التي كانت تثير الحمية الوطنية، وتدعو الشعب للتطوع في الجيش، حماية للوطن من المخربين، الذين تم شراؤهم من الخارج، فكان أحد المتطوعين.بعد عدة سنوات من الحرب التي وضعت أوزارها، كانا يجلسان معا، وقد فقد أحدهما ساقه، والآخر فقئت إحدى عينيه، فيما تصالح رئيس الحكومة مع قائد المعارضة، واقتسما السلطة، هنيئا مريئا.وهما والآلاف مثلهما، لم يجدوا من يفكر بهم، بتعويض أو وظيفة، فرقتهم الحرب ابتداء، وجعلتهم أعداء، لكنها أيضا جمعتهم في النهاية، فقد بات همهم واحدا، حيث لم يجدوا في أيديهم إلا الفراغ.- ليتنا تقابلنا أثناء المعارك يا موساكا!- لماذا يا كونتا؟، غالبا كان أحدنا سيقتل الآخر.- ربما نجح كلينا في قتل الآخر ونجونا من العذاب.- صدقت..وبينما هما جالسان يتبادلان الحديث، تارة بصمت، وأحيانا بضحك صاخب، وأخرى بغضب هادر، دخل ذلك القزم الأصلع، واسمه موكوكا، تبادل همسات مع بعض رجال العصابات ثم أخذ يتنقل بين الطاولات.موساكا وكونتا يعرفانه جيدا، هذا سمسار حروب، يبيع الأسلحة، ويجند الأطفال ليخوضوا الحروب في كل مكان بقارة إفريقيا، وربما على بعد آلاف الأميال من موطنهم الأصلي، الكثير من الأساطير تحاك حول ثروته الضخمة، لكن ما سمعاه في تلك الليلة فاق كل احتمال.أثار موكوكا شجونهما، وادعى أنه متعاطف مع ما هم فيه، من ألم وظلم، فقد نسيتهم الحكومة، كما تجاهلتهم المعارضة التي باتت اليوم جزءا من الحكومة، كانوا وقود الحرب، وهما اليوم لا شيء، مجرد أكياس رمل تم التخلص منهما.أخبرهما أن إحدى الجماعات المسلحة ستعلن الحرب قريبا ضد الحكومة، وبحكم خبرتهما دعاهما للمساهمة في تجنيد القوم لهذه الحرب القادمة، والمقدسة كما أسماها، لرفع الظلم وإحقاق الحق، وسيدفع لهما مبلغا محترما مقابل كل فرد يتم تجنيده عن طريقهما.دارت رؤوسهما، فالعرض مغر قد يخرجهم من دائرة الفقر، لكن الثمن المزيد من الدماء، وسيغرق الوطن من جديد في حرب لعينة ذاقا ويلاتها، الآن هناك الآلاف أمثال كونتا وموساكا، لكن لو اشتعلت الواقعة من جديد سيتضاعف العدد أضعافا مضاعفة، لم يردا عليه، لكنهما بكيا بكاء مرا.صباح اليوم التالي شهدت الشوارع خروج الآلاف من المقاتلين السابقين، يطالبون بحقوقهم المشروعة وبأن توفر لهم الدولة حياة كريمة، سواء كانوا يقاتلون مع الحكومة، أو مع المتمردين، لقد أدركوا اليوم أن قضيتهم واحدة، كما أن تجار الحروب قضيتهم واحدة، وطالبوا أيضا بتفادي أي حرب مستقبلية.كالمعتاد ظل باقي الشعب في نومه هانئا، لم يتحرك أحد، رغم أن الجوع، والفقر، والمرض، ثلاثي مجنون انتشر في كل أرجاء الوطن، وهذا ليس بمستغرب، فالتاريخ يخطط له المستفيدون، ويصنعه المساكين الذين يضحون بدمائهم لأجل ذلك، ثم تفرض النتيجة على الباقين الذين عليهم دفع الثمن، كي يعيش تجار الحروب والمخططون له في بحبوحة.