11 سبتمبر 2025

تسجيل

ثقافة الاعتذار

06 أغسطس 2014

للشاعر العربي محمّد بن إسماعيل الإسحاقيّ قصيدة راقية وفيها بيت يستحق التوقف مليا أمامه حيث يقول فيه:إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه... وكان الّذي لا يقبل العذر جانيا في البيت حث واضح على الاعتذار عند الخطأ، وكذلك تحذير من عدم قبوله من صاحبه، وبهذا يعالج الإسحاقي الخلل ودوافعه . إن أصحاب النفوس المستقيمة يجتهدون قدر الطاقة في الابتعاد عن الخطأ، ويتجنبون ما استطاعوا الزلل، لكن إن تعثرت خطاهم بحكم الطبيعة البشرية التي لا تعرف الصواب المطلق، سارعوا إلى الاعتراف بخطئهم والاعتذار عنه، وهذا منهج أهل العقول التي لا تحسن القفز فوق الأخطاء . إن الاعتذار أمر غير محبب إلى النفس بحكم الفطرة، وقد راعى الإسلام ذلك واتخذ له طريقا وقائيا فعن أنس بن مالك- رضي اللّه عنه- أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إيّاك وكلّ أمر يعتذر منه" وذلك أن طبيعة النفس جبلت على ذلك، لكن إذا وقع الخطأ لا محالة فلا ينبغي المكابرة بل التسليم بالخطأ والاعتذار عنه، ووجدنا هذا جليا في خير قرن عرفه التاريخ بل وفي خير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه الصديق أبو بكر يقول عائذ بن عمرو: إنّ أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر. فقالوا: واللّه ما أخذت سيوف اللّه من عنق عدوّ اللّه مأخذها – يقصدون أبا سفيان-. قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدهم؟ فأتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأخبره، فقال: «يا أبا بكر لعلّك أغضبتهم. لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك». هنا علم أبو بكر رضي الله عنه أنه قد وقع في الخطأ وأن الأمر لم يكن على ما قدر، مباشرة ومن دون تأخر ذهب إليهم معتذرا، أتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه؟ أغضبتكم؟ قالوا: لا. يغفر اللّه لك يا أخي.هذه هي النفوس العظيمة التي لا تكابر ساعة الخطأ بل تهرع إلى الحفاظ على رصيدها الأخلاقي والاجتماعي وقبل ذلك الديني.لقد ذهب أبو بكر معتذرا، ذهب رجلا وعاد كما ذهب لم يأخذ الاعتذار منه شرفا أو مهابة بل الحق أنه زاده رفعة ومكانة . إن الاعتذار عن الخطأ يجلب المودة بين الإخوان، ونزع الضغائن والأحقاد، وزرع المحبة والوئام، واستجلاب التواضع وصرف الكبرياء، وفوق ذلك كله يرزقك محبة الله ويصرفك عن الظلم والاختيال. ولئن كانت هذه سمة أهل الصلاح، فإن أهل الفضل إذا اعتذر إليهم معتذر قبلوا ذلك منه، وأدنوا صاحبه إليهم وقربوه، بل ذكر التاريخ لنا أحداثا يرفع المظلوم الحرج عن ظالمه حتى لا يحوجه إلى الاعتذار إذا قدم معتذرا!* هذا إبراهيم النّخعيّ رحمه اللّه تعالى، ذهب إليه رجل معتذرا فقال له: «قد عذرتك غير معتذر، إنّ المعاذير يشوبها الكذب " * واعتذر رجل إلى الحسن بن سهل من ذنب كان له، فقال له الحسن: "تقدّمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وكانت بينهما منك نبوة، ولن تغلب سيّئة حسنتين"* وقال عبد الرّحمن بن المبارك اليزيديّ (مؤدّب ولد يزيد بن منصور الحميريّ) يعتذر إلى المأمون لأنّه امتنّ عليه بتأديبه إيّاه:أنا المذنب الخطّاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو* وقال الشّافعيّ- رحمه اللّه-:يا لهف قلبي على مال أجود به ... على المقلّين من أهل المروءاتإنّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي لمن إحدى المصيباتليس من عيب في الاعتذار وإنما العيب في التكبر والتعالي وعدم الرضوخ والانصياع للحق .