17 سبتمبر 2025
تسجيلالمفاجآت المصرية تجاوزت قدرات التوقع بحدوثها المتوالي، وبدا إفلاس سيناريوهات التعامل مع مصر يشي بحالة من الانزعاج تترجمها الرحلات المكوكية المتنوعة إلى القاهرة، بدأت بحديث عن طلبات لقاء لرئيس مخلوع وموضوع في مكان آمن، وانتهت إلى أن يكون لجماعة الإخوان وجود في الحياة السياسية المصرية على نقيض ما كانت تطالب به الجماهير الشعبية في 30 يونيو. الغريب أن المطلب هو ذاته مطلب فبراير 2011، سرعة إجراء انتخابات للوصول إلى صيغة ديمقراطية لنظام الحكم، وكأنهم يلحقون بهذا القول جملة لا تغادر النوايا تقول "كما نريده ونراه وبمن نشاء"، وزادوا عليها هذه المرة تخصيصا أدق "بجماعة الإخوان". المفاجآت المصرية كانت دلالة حيوية عالية لدى شعب يستمر في حالة من الثورة والحركة والمقاومة والتعلم ثم يعيد الكره، ليشهد العالم أضخم تحرك شعبي في تاريخه متكررا لثلاث مرات في أقل من 30 يوما، بين يومي 30 يونيو حتى 26 يوليو. ولكن المفاجآت المصرية لم تعد مجرد حركة تنضج خلال مسيرتها، ولكنها اتسمت بالقدرة على استيعاب الدروس المباشرة خلال 30 شهرا مضت وكذلك ما هو أعمق من المباشرة، وتجاوزت حالة النضج الجماهير والحشود لتتماس مع الجيش، وما يمثله من عمود صلب للوطن والدولة، ونجح وعي الأطراف في استرداد الثورة والهوية وتحرير الدين من ادعاءات طالت قدسيته. لم تتوقف الإدارة الأمريكية عن التحرك وبحالة من السفور الكامل، متجاوزة الأعراف الدبلوماسية، من قبل 30 يناير وبعده، للحيلولة دون تحقيق الغاية التي خرج من أجلها الشعب. الشعب لا يريد محمد مرسي رئيسا، وأمريكا وآلاتها الإعلامية تطلق عليه انقلابا عسكريا. والشعب يرفض الإرهاب والتكفير وجماعة الإخوان، وأمريكا تتشبث بها وكأنها طوق النجاة لشيء يتجاوز مسائل أمن إسرائيل أو ترتيبات ضرب إيران أو مصالح بترولية في الإقليم. وكأننا بأمريكا تمسك بسيناريو "ألا يحقق الشعب نتائج يريدها"، "ويعتقد أنه حققها بهذا الأسلوب"، "وألا يتجاوز الوعي الشعبي مجرد مطلب لقمة العيش"، "ثم ما معنى أن الجيش ينضم إلى الإرادة الشعبية"، وكأن لسان حالهم يردد كلمات الخديوي توفيق في حضور ممثلي الدول الأجنبية بميدان عابدين إلى أحمد عرابي، "أنتم عبيد إحساناتنا"، ويدور حديث عن وقف تسليم دفعة من طائرات أف 16 إلى مصر، وكأنه عقاب. ويتكشف أن أمريكا لا تريد لمصر أن تتجاوز حالتها التي كانت عليها تحت حكم مرسي وجماعة الإخوان، أيا كانت الشعارات التي ترفعها الإدارة الأمريكية أو تتجاوزها. لم تستطع الإدارة الأمريكية أن تفهم مصر كما هي مصر، وليس كما تتصورها أو ينقل صورتها إليها العديد من أصدقائها. وبلغ الأمر أن يشيع بين الشعب المصري وبحالة من الثقة، مقولة أن الثورة المصرية هي أول ثورة تتسبب في عدم استكمال رئيس أمريكي لمدته الرئاسية. تحول الفشل الأمريكي في التعامل مع مصر إلى حالة اضطراب في تصرفات الإدارة الأمريكية، وكأنها إدارة ناشئة في العلاقات الخارجية، وبدا أن الإدارة المصرية في هذا الشأن حققت نتائج إيجابية. وتنشر الواشنطن بوست حديثا للقائد العام للقوات المسلحة المصرية الفريق أول عبد الفتاح السيسي، يمثل علامة رئيسية على تاريخ العلاقات المصرية الأمريكية: أولا: أن الرئيس أوباما وإدارته "أدار ظهره للمصريين.. وأن المصريين لن ينسوا ذلك" وهو أمر مناقض لمقولة أن 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا!. وإن كان هذا القول يبدو معاتبا، غير أن عتاب الجنرالات لا يتساوى وعتاب العوام من البشر، وها هو رجل يقود الجيش المصري يتحدث عن المصريين ويعنيه كيف يتم التعامل معهم، وباسمهم يقول إن المصريين "لن" ينسوا هذا، حديث ولغة جديدة على العلاقات المصرية الأمريكية. ثانيا: "أن الجيش المصري بتاريخه لا يليق التعامل معه بمنع دفعة طائرات".. وكأننا أمام إعلان حالة إدراك لضرورة تنويع مصادر السلاح، فهل تحمل الأيام القادمة تحولا في العلاقات المصرية الخارجية في المجال العسكري، كما تحمل الكلمات من معان، خاصة أن قيمة الكرامة والشرف كانت تملأ خطابه لدعم حركة الشعب والدفاع عنه. ثالثا: "أن تستخدم أمريكا نفوذها لدى جماعة الإخوان لنبذ العنف"، وهو ما لفت الانتباه أن هناك علاقة وطيدة تسمح لأمريكا أن تطلب من جماعة الإخوان فتنفذ، وبمعنى آخر فقد علق أجراس الإرهاب في رقبة أمريكا، وأنها هي المسؤولة عنه، وهي لغة حديث واضحة وقاطعة لم تسمعها أمريكا منذ زمن بعيد، زمن ترددت فيه معاني الاستقلال الوطني. رابعا: "أنه لا يفكر في الترشح لمقعد الرئاسة"، وهو نفسه الرجل الذي وصف توليه منصب وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة "بالوظيفة"، ولم يحاول أن يرتدي عباءة القائد الروماني المنتصر. وتبرز قيمة هذا التصريح في أنه يفصل بين المؤسسة العسكرية واحتياجاتها لقيادات تدرك أهميتها وقيمتها في وطنها وتجرد تحركها عن الأطماع الشخصية، وهو تصريح يعني أن القوات المسلحة ستبقى رمانة الميزان في حركة المجتمع نحو تحقيق أهداف الثورة، وهي تحتاج إلى قائد من هذا الطراز. ورغم هذه التصريحات ووضوحها، غير أن حالة من عدم الرضا تسود الشارع المصري، بشأن أمرين، أولهما حالة العنف غير المبرر والذي بلغ حالة الإرهاب للمواطن المصري وعدم فض الاعتصام كخطوة أولى لمواجهة الإرهاب الداخلي، خاصة أن وقائع ما يجري في سيناء تؤكد أنها مواجهة تتجاوز مدى الأحداث ولكنها تتصل لتشكل صورة الحرب. والثاني هو الموقف من جماعة الإخوان، خاصة أن الخروج الشعبي في 30 يونيو لم يكن يسقط إدارة سلطة البلاد لأنها منحرفة، ولكنه كان يسترد الوطن والدين والهوية من حالة التشويه التي أدارتها الجماعة تجاهها، ومعها كل تابعيها من التنظيمات الموالية لها. عدم الرضا نابع من الثمن الذي يدفعه المواطنون يوميا، وأن التفويض الذي استجاب الشعب لطلبه يوم 26 يوليو لم يكن الغرض منه أن تستفيد جماعة الإخوان وتصبح ممثل الإرادة الأمريكية فوق الأرض المصرية، ولكنه كان تفويضا لإنهاء حالة القتل والتعذيب تحت دعاوى الشرعية، واستخدام الأطفال كموانع بشرية في مواجهة أي عملية تستهدف فض الاعتصامات، غير السلمية قولا ودعوة. عدم الرضا كاد أن يحول محمد البرادعي من أيقونة الثورة كما يطلق عليه البعض إلى مشكلة الثورة، وبلغ الأمر إلى وصفه بالخلية الإخوانية النائمة رغم معانات الرجل مع تلك الجماعة والأحزاب الموالية لها، ولكن حديث البرادعي عن المصالحة لم يلق ترحيبا وخرج الرجل في حديث استغرق ساعة على فضائية مصرية ليجد فسحة من الوقت لتفسير ما يعنيه. وبدا الأمر كما لو أن هناك لعنة في مصر لمن يحمل جائزة نوبل، السادات قتله الإسلاميون وسط جنوده، ونجيب محفوظ اعتدى عليه أحد الإسلاميين بطعنة في الرقبة، وأحمد زويل انزوي في أمريكا لعلاج مرض سرطاني، ثم ها هي الفتاة اليمنية كرمان توكل يتم منعها من دخول مصر بعد أن كشفت عن انضوائها سياسيا تحت لواء الإخوان، وترديدها لمقولات اعتبرت وبحق تجاوزت فيها حدود اللياقة بين العرب، وليس كما يتحدث البعض عن حقوق الإنسان كما يراها الأمريكيون وتمارسها السفيرة الأمريكية في مصر آن باترسون والتي تكاد تضع جماعة الإخوان تحت جناحيها. وعادت إلى الأذهان حالة التردي الأولى في فبراير 2011 عندما كانت الأقوال ثورة والأفعال مضادة للثورة، وخرجت أصوات تتهم الحكومة الانتقالية بالتخاذل وأنها ترعى الخارج أكثر منها تنظر لإرادة شعبها. فهل ستفاجئ مصر العالم بحركة تصحيح جديدة؟، إن الشعب سيتولى أمر مواجهة الإرهاب في وادي النيل بنفسه دون الاعتماد على الحكومة. الحقيقة أن الحرب على الإرهاب لن تنتهي بفض الاعتصامات المؤيدة لمرسي، ولكنها ستبدأ على نحو آخر بعد الانتهاء من فض الاعتصامات. قد يكون إطالة أحبال الصبر، وحل الأمر دون استخدام القوة، ووضع القواعد المنظمة لممارسات الدعوة الدينية، وإنشاء الأحزاب السياسية، والحيلولة دون كل من أتي جرما في حق الوطن أو المواطن، والهروب بجريمته، واعتبار أن الداخل هو صاحب الحق الأصيل في الوطن، وأن من يستمد قوته من الخارج ويتصالح مع الوطن على مائدة أمريكية، هو بالحساب والمنطق جسم غريب على الوطن. إن ما يجري في مصر الآن يزيد من عزلة السياسيين والنخبة عن المجتمع، وهي مشكلة ممتدة سواء في وضع الدستور الجديد، أو في الانتخابات التي ستنتهي إليها الفترة الانتقالية. يجب الثقة أن تفويض الجيش لن يضيع سدى، لأن القائد العام للجيش هو من طلبه، ولعل الأيام القادمة تكشف عما يدور خلف الغرف المغلقة، وحجم التحديات والخطط التي توضع لمواجهتها. ادعت جماعة الإخوان أنها حامية للدين، فمارست الكذب والتعذيب بالشوارع والقتل، ومدهم الله ومن والاهم في طغيانهم، وانكشف أمرهم أمام الشعب، فكيف يعاند أولئك الذين يتحدثون عن عدم إقصائهم، ويتحدثون عنهم كفصيل سياسي، يعاندون الشعب والحقيقة، ولا يملكون مبررا منطقيا واحدا غير أن الجماعات تهدد وتتوعد إن لم يجر تمكينها فهو الدمار والقتل. الشعب المصري خاض في مواجهة قوى الظلام حربا للدفاع عن دينه، ونصره الله فيها، وكشف ما يتعرض له الأمن القومي، وخرج لاسترداد إرادته والدفاع عن أرضه، وهو في مواجهته كان يسترد هويته ويسترد الثورة، ويجب الآن التوقف عن مفاوضات الانصياع للتهديد الأمريكي بالإرهاب، وإقامة حالة توازن للقوى في مواجهة غطرستها. إنه الصبر والاصطفاف واليقين بالله والوطن والمستقبل، وكل دم وأي دم هو فداء للوطن شريطة أن يكون العائد للشعب.