15 سبتمبر 2025
تسجيلخرجت من الخيمة، وفي فقرات عنقي ألم مباغت، في القلب ذكرى عاودت الظهور بشدة، ولدرجة فكرت فيها أن أستعيد الخاتم المدفون من حفرته العميقة، أسميه خميلة جماري، أحتضنه بقوة ونبكي معًا. كان الجنود قد تركوا انشغالهم بطيف الحرب، رصوا سيوفهم وحرابهم ودروعهم على أرض ملساء، وتجمعوا للصلاة، توما يغسل يديه من دم خروف مصروع أمام خيمة الطبخ، وينهض متورم العينين. اقترب مني (التقلاوي ديدام) الذي كان من قبيلة النوبة المستوطنة في منطقة جرداء، جنوب (السور)، وعمل تحت إمرتي فرَّاشًا في مجلس المدينة أكثر من عشر سنوات، واختفى بعد ليلة مهووسة مشتعلة، كنت موجودًا فيها وشاهدتها حتى انطفأت، لأشاهده في يوم السقوط، وسط الهدير رافعًا حربته المسنونة في وجهي، ثم بعد السقوط هنا في المعسكر، مستشارًا خاصًا في أمور عدة. كان مزهوَّا بثوبه الأخضر المرقع، ومشيته الجديدة ذات الخطوات المنغّمة، وذلك السيف الفضي المدلى من خصره الأيمن، وكنت دائمًا ما أتحاشى لقاءه الذي يأتيني بموقعي القديم وموقعه الجديد، ويزيد من ارتباكي وتوعكي، لكن لا مناص من اللقاء في تلك المساحة الجلفة، وفي جوف ذلك المصير الموحش، وبمساعد القائد الذي يملك صلاحية الولوج حتى للأحلام.كان مبتسمًا عن أسنان تحتضن غصنًا أخضر من سواك (الأراك)، تنز من ثيابه رائحة المسك، وهمس في أذني مستهزئًا:- لم يكن عشاء الأمس جيدًا يا ميخائيل بك.. اللحم نيئ والثريد بلا بهارات. اجتهد.. اجتهد أكثر.طأطأت رأسي ومضيت، ورفع رأسه ومضى.أديت صلاة الظهر في خشوع حقيقي، كنت قد بدأت أفتتن بالدين الجديد، كان ثمة عدل وتسامح، وتعاليم شديدة الرقي لم أكن أعرفها من قبل، برغم مخالطتي للكثيرين من حامليها. أمَّنا الشيخ (مفتاح الفلاح) الذي كان إمامًا لجامع (السور) الكبير، وأقاله التركي (يوسف دامير)، حاكم المدينة الراحل، حين لم يعجبه أداؤه في خطبة الجمعة التي ألقاها أيام إرهاصات الحرب، وأفاجأ بوجوده هنا هؤلاء الناس الذين أعادوه إمامًا محدد الصلاحيات، كما كان دائمًا. كان عن يميني معمم يمني اسمه (العلوي جبّار القرنين) لا أدري من أين جاء، فلم أشاهده من قبل في المدينة التي لا ينقطع سيل الغرباء عنها، حيث يأتون للسياحة أو بحثًا عن الربح، أو بلا أي هدف محدد. كان صانعًا للدروع، ومروِّضًا لخيل الحرب ذات الصهيل القوي، ونافخًا لآلة عصية على النفخ اسمها (الكارور)، نحتت من جذوع أشجار السنط اليابسة، وتستخدم في لم الجنود من تشتتهم، حين لا بد أن يلتموا، وزار خيمتنا في مرات عديدة ليصنع وجبة (المقلوبة) اليمانية التي لم نكن نعرفها من قبل، وكان يبهّرها ببهار حار تدمع بملامسته العيون، يخرجه من جيبه. عن يساري أعرابي من قبيلة (آل بطّاح) البدوية، التي تترحل في مناطق واسعة حول مدينة (السور)، اسمه (ودعة)، ويلقبونه بودعة المصَّاص، لم يكن جنديًا ولا طباخًا ولا مهللًا أو مكبرًا، ولكن معالجًا متخصصًا في تدليك تشنجات العضلات، وتحضير لبخات الجروح والحمى، ومص سم العقارب والثعابين التي تتكاثف في تلك الأصقاع، وتعوق شراسة الحروب في أحيان كثيرة، حين تفترس الدماء المحاربة.