29 أكتوبر 2025

تسجيل

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها

06 مايو 2015

قول عابر للربيع بن خثيم كان جوابا عن سؤال طرح عليه، بيد أنه يصلح أن يكون منهاج حياة لمن أراد النجاة. قيل له: ما نراك تعيب أحداً؛ قال: لست عن نفسي راضياً فأتفرغ لذم الناس، وأنشد:لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها... لنفسي في نفسي عن الناس شاغلهي المحاسبة الدقيقة إذا، هو التعامل مع النفس على أنها شريك خائن ما استوثق الإنسان منها ورضي عنها أهلكته، فلم يستبن منها طريق الرشد من الغبي، ولا الضلال من الهدى، يقول ابن القيم رحمه الله: "وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشاركة على ما يفعل الشريك أولا، ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيا، ثم بمحاسبته ثالثا، ثم بمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعا، فكذلك النفس: يشاركها أولا على حفظ الجوارح السبع التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك. فمن ليس له رأسمال، فكيف يطمع في الربح".ويقصد ابن القيم رحمه الله بالجوارح السبعة: العين، والأذن، والفم، واللسان والفرج، واليد، والرجل.وهي كما قال: مراكب العطب والنجاة، فمنها عطب من عطب بإهمالها. وعدم حفظها، ونجا من نجا بحفظها ومراعاتها فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر. وهذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". وقد جسد السلف خطورة الرضا عن النفس في كلمات تظهر أن محاسبتهم أنفسهم كانت على دقيق أفعالهم قبل كبيرها.يقول ميمون بن مهران "إن التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان عاص ومن شريك شحيح". ويقول الحسن البصري: "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته، يستقصرها فيندم ويلوم نفسه، وإن الفاجر ليمضي قدما لا يعاتب نفسه".ويقول مالك بن دينار: "رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائدا ً".ومن أجمل ما وقفت عليه ما ذكره الإمام أبن الجوزي رحمه الله تعالى حيث يقول: "وقد كنت أرجو مقامات الكبار، فذهب العمر وما حصل المقصود. فوجدت الإمام أبا الوفاء ابن عقيل قد ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فكتبتها هنا قال لنفسه:(يا رعناء تعظمين الألفاظ ليقال مناظر، وثمرة هذا يا مناظر كما يقال للمصارع الغارة، ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء، وهي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غدا اسم مناظر، ثم ينسى الذاكر والمذكور إذا درست القبور.هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له وصار الاسم له.والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذ –انطووا- نشرهم وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم. أف لنفسي وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم وما عبق بها فضيلة. إن نوظرت شمخت. وإن نُصحت تعجرفت. وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة.توفر في المخالطة عيوبا تبلى ولا تحتشم نظر الحق إليها. أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغدا تحتها، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب. ووالله إنني قد أبهرني حلم هذا الكريم عـني؛ كيف يسترني وأنا أنتهك؟ ويجمعني وأنا أتشتت. وغدا يقال مات الحبر العالم الصالح. والله لو عرفوني حق معرفتي ما دفنوني. والله لأنادين على نفس نداء المكشفين معائب الأعداء. ولأنوحن نوح الثاكلين على الأبناء. إذ لا نائح ينوح على هذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها وغطاها من علمها وهو الله.والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلا بها - اللهم أغفر لي كذا بكذا-، والله ما التفت قط إلا أجد منه سبحانه برا يكفيني، ووقاية تحميني مع تسلط الأعداء ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها. هذا فعله معي وهو رب غني عني. وهذا فعلي وأنا عبد فقير ولا عذر لي فأقول ما دريت أو سهوت. والله لقد خلقني خلقا صحيحا سليما، ونور قلبي بالفطنة حتى إن بعض الغائبات المكنونات تنكشف لفهمي. فوا حسرتاه على عمر انقضى في ما لا يطابق الرضى. ويا حرماني لمقامات الرجال الفطناء. يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو بي. واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر والله من الشيطان وأنا الفطن. اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ونهضت صادقة لتصفية ما بقي من الأقذار، وقد جاءتك بعد الخمسين وأنا من خلق المتاع. وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم. والله ما عصيتك جاهلا بمقدار نعمتك، ولا ناسيا ما سلف من كرامتك، فاغفر لي سالف فعلي).هذا يقوله أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي وهو العالم العابد الزاهد الورع الذي ما انشغل إلا بالعلم والعبادة حتى كتب الفنون في ثمانمائة مجلد! فكيف يقول من حاله حالنا، ودخنه دخننا ثم يؤمل النجاة غدا من الحساب!!