15 سبتمبر 2025
تسجيلهكذا وقفنا بانتظام، طابوراً طويلاً أمام الموت، في انتظار النوم في الأبدية، كانت أرواحنا التي فارقتنا قبل قليل ..تلوّح لنا مشجّعة مثل أمهات يعلمن أبناءهن الذهاب إلى المدرسة، ولكن الموت السوري مختلف، مختلف جداً يا صاح ـ لكزني شاب قضى في قذيفة تناثرت شظايا في جسده ـ. تأخر الموت علينا، كان بطيئاً كسولاً لم يحفل بنا، أقام في فلسطين ثمّ في أفغانستان والعراق ، كان يلمّ بنا في زيارات عابرة ..قاطفاً وردة صغيرة في حادث سير، أو حاملاً غريقاً لم يتقن موته إلا في مشفى حكومي، أو ساهراً نزقاً على عجوز يقرأ نهايته في عيون أبنائه. ولأن واجباته تراكمت، فهو الآن يقيم عندنا ـ أعانه الله ـ فالسوريون نزقون ويريدون موتاً جيداً. ولهذا فقد تركوا طوابير الخبز و الوقود وجاؤوا هنا. كان الموت يخصص دفعة جديدة كل يوم، عشرين ..ثلاثين ..خمسين ..سبعين ..وعندما وجد الزحام شديداً ، والتدافع مهلكاً ..أشفق علينا ، ورفع عدد الوجبة اليومية ..مائة ..مائة وعشرين ..مائة وثمانين، مائتين ... كنا نشاهده في عمله الشاقّ ، كان مخلصاً في عمله، يسافر بعض الأحيان إلى مناطق مختلفة، شاهد مباراة في بورسعيد، حضر سقوط نيزك، زار بعض المشافي.. لكنه يعود إلينا شهماً نبيلاً ، يرسلنا في أحيان كثيرة إلى عدسات الوطن، لم يبق موضع في الجسد السوري إلاّ وجسه الموت ، كانت أياديه الرقيقة تمسد على رؤوسنا وهي ترتبنا في مقابر أعدّت على عجل. كنا مائة وثلاثة عشرـ أحب الرقم ثلاثة عشرـ اصطففنا أرتالاً وأنساقاً ، منّا من كان يحمل يده المقطوعة بيده الأخرى، ومنا من حمل رجله على كتفه كعصا راعٍ، ومنا من حمل رأسه المفلوق بين يديه كبطيخة، ومنا من حضرت أصابعه فقط. أرواحنا من بعيد تراقبنا، والموت يرتبنا ..الطويل ..القصير، أبناء حمص ..أبناء درعا، دمشق، إدلب، حلب، دير الزور... الخ ، كان ثمة موتى آخرون يتوسلون أن يصطفوا معنا ليستقلوا الباص المريح المكيّف.. دافعوا عن وجهات نظرهم :" ونحن أيضاً سوريون" " متنا في هذا اليوم أيضاً" ..تراشقنا وجهات النظر، لم نعد نتحكم في أعضائنا لنتبادل الصفعات والرصاص، حاول الموت تهدئتنا عبثاً :" يا شباب ..يا شهداء.. يا حلوين ..الباص يتسع للجميع". عبثاً حاول الموت؛ كان الموتى القادمون من المشافي و الطرق العامة ، وبلاد المهجر ..يحاولون اللحاق بنا، صعدوا معنا ..وجدوا أماكن فوق الباص، وفي الممرّ الطويل توسدوا أذرعنا، , وأثنوا على موتنا الجليل، بعضهم صعد فوق باصنا المكيّف. مشينا ..سار الباص ـ باص الموت السوري ـ بين الدمع والشهقات والرز المنثور ، وصرخات النار ، مشينا نلوّح للنساء المتشحات بالسواد، و القتلة ، مشينا.. على أكتافنا أرجلنا المقطوعة، وآثار الرصاص الحيّ، مشينا إلى بيوتنا الجديدة ، نلقي التحية على جيراننا الجدد الذين سبقونا في كتابة النصّ السوري الجديد... فيما الباص يغادر عائداً، على أن يعود إلينا بجيران جدد.