13 سبتمبر 2025

تسجيل

اللحية الحديدية

06 مارس 2012

المتابعة لمجريات الأمور في مصر لا تغري عاقلا بالمغامرة والخوض فيها، وإلا خرج وفرسه الأبيض ورداؤه الناصع البياض ملطخا بدماء الشهداء وطين أحذية البيادة، فالالتباس أصاب كل الأشياء، ورغم الصراخ في أجهزة الإعلام والمجلس والأحاديث المتتالية حول الانتخابات والدستور ولجنته والرئيس القادم والانفلات الأمني وطهارة وزارة الداخلية والهتاف بإسقاط حكم العسكر والطائرة العسكرية الأمريكية التي حملت 16 أجنبيا من محبسهم إلى قبرص متجاوزين في ذلك حكم محكمة، رغم كل هذا فإن مصر تبدو ثورتها وقد دخلت بحرا من الرمال المتحركة، ولا يحاول أحد أن يتوقف لقليل من الوقت لمراجعة إلى أين المسير. اللحظة هي نتيجة مباشرة لميزان القوى جرت إعادة صياغته عنوة في أعقاب ثورة يناير، وكأنه سيناريو معد سلفا وجرى إعداد عناصره على مدى زمني بغير حدود، ويمثل قمة الانقلاب على الشعب وتاريخه وتضحياته وآماله ومقاصده العليا. وانتقلت قوى سيناريو الاستيلاء من حديث عن ثلاثين عاما مضت لتكشف عن وجهها وتتحدث عن ستين عاما مضت، وكأن عناصر هذا السيناريو يستكملون ما بدأته المخابرات المركزية الأمريكية وثبت عليه محاولات الانقلاب باسم الديمقراطية في أول الخمسينيات، ثم محاولات الاغتيال المتتالية، وحرب العدوان الثلاثي وقبلها اغتيال الموساد لمصطفى حافظ في غزة وصلاح الدين مصطفى في الأردن، ومؤامرات ما سمي بالرجعية العربية، والحصار الاقتصادي ومحاولات الحيلولة دون بناء اقتصاد وطني حر وعدوان 1967، وإهدار انتصار السلاح في 1973، خلال كل هذه الفترة كانت مصر بالفعل تحت السلاح تقاتل وتبني. وبعد تولي السادات عادت مصر للخلف أربعين سنة أخرى وجرى اغتيال الحركة الوطنية بتحالف بين السادات والإخوان حتى قتلته التنظيمات الدينية وبقدر حبه للمغامرة كانت نهايته الاغتيال بين جنود القوات المسلحة. كان قدوم حسني مبارك خروجا أيضاً عن سيناريوهات ما بعد النصر العسكري لتنقلب مصر من دولة ذات قيمة بين دول المنطقة والقارة الإفريقية، إلى جمهورية من دول الدرجة الثانية والثالثة وعلى كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وبدا المشهد أن مصر بكل حضارتها صارت تحكمها عصابة. ولأن التاريخ يقف صاغرا أمام حركة الشعوب ويستجيب لفعلها، كانت مصر يناير بطليعتها من الشباب وشعبها تحمل في ضميرها إرادة الثورة والتغيير، لتفاجئ العالم بأن هذا الجسد الذي ظنوا أنه قد مات وغير قابل للحياة ينتفض ليقلب الموازين خلال 18 يوما من أعظم أيام تاريخ مصر، ويسطر الشعب المصري صفحة جديدة لمعنى الثورة الشعبية وقدرتها على تطوير أهدافها وفق المتغيرات اللحظية، فوق قدرتها على الإمساك وبوضوح بأمل التغيير والاستعداد للشهادة في سبيله. وبعد عام من الثورة لا يبدو المشهد انقلابا عليها وإنما يبدو امتدادا للانقلاب على مبدأ الحرية ذاته فيقف المنقلبون على 23 يوليو جنباً إلى جنب مع المنقلبون الجدد على 25 يناير. وتغفل جموع المنقلبين عن أن إعادة هيكلة القوات المسلحة بعد يونيو 67 وإن كان ظاهرها الجيش لكنها أعادت بناء الدولة لتخلق حائطا يحميها لعقد أو أكثر بعدها وإلا لسقطت من المؤامرات الداخلية المستعرة. ويبدو المشهد اليوم وكأن لورانس العرب الذي أقام نظام الجزيرة العربية على أنقاض الخلافة العثمانية والهاشميين، قد عاد ليكمل الدور وليستكمل إقامة نظام جديد في مصر على أنقاض وطن وشعب ودولة، ومعه ومن خلفه كل القوى التي كانت أو استحدثت جديدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وبعد سقوط الكتلة الشيوعية، ومعه كافة أجهزة قوى العالم القديم والجديد وبكل ما جرى بناؤه من تنظيمات داخلية، لها ذات العقيدة المتدثرة بأردية الدين، والمنصاعة للإرادة الخارجية. مشهد يتحدثون فيه عن ستين عاما مضت من العذاب، ولا يملكون في أيديهم غير نداء الأممية الإسلامية وبداياتها إسقاط الدولة المصرية، بحصار للوطنية وإهدار للهوية وإعادة صياغتها بما يتفق والهوى وضرورات السيناريو الجديد. الصراع في مصر وعليها صراع إرادات، منذ الاستعمار التقليدي إلى زمن الخصخصة والعولمة. وما يمكن رصده من غرائب السيناريو الجاري فوق أرض مصر هو اللقاء بين التنظيمات الدينية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، لقاء غير جائز تحت أي دعاوى إلا إن كانت صياغة اللقاء معدة سلفا بالأدراج، بتحديد أبعاد المصالح لكل طرف، ووحدة التصور للمستقبل، وغير هذا فهو زواج مؤقت وأهدافه مكتومة في الصدور والصدام بين أطرافه قادم. الجيوش في أي مجتمع لا تستطيع أن تتخلف عن عصرها، حتى وإن كانت إمكاناتها لا تتيح لها أن تملك ما تريد. وهي تملك من المعلومات عن عدوها وعن الداخل ما يكفي لصانع القرار أن يملك بدائل تمكنه من تحقيق النجاح أو على الأقل تمنع عدوه من تحقيقه. والجيوش ليست بناء أصم، لا تفاعل داخله، فأبناؤها هم عناصر من الشعب يجري عليهم أو على أهلهم ما يجري على الجميع، فضلا عن أن الجيش لم يعد جيشا من أبناء الطبقات العليا في المجتمع بل هو تعبير عن كل مكوناته الاجتماعية، الأمر الذي يجعله في حالة تفاعل وليس جدارا أصم. فكيف والحال كذلك أن يرى من المجتمع جماعة بعينها دون المكونات السياسية والاجتماعية للمجتمع ذاته. الجيش فيما فعل لم يكن خائنا، ولكنه كان يحكمه أحد بديلين، إما أنها قناعة ودور يمكن به التنظيمات الدينية ليتفرغ هو لدور آخر لا نستطيع رصده في اللحظة، أو بديل آخر أنه يخرج ما بعمق المجتمع لصدام قادم حتما. منذ اللحظة الأولى وفي أول قرار بتحديد لجنة التعديلات الدستورية، سلم الجيش للإخوان دفة الأمر بتعيين البشري رئيسا للجنة التعديلات وضم شخصا واحدا من التيارات السياسية وهو محام من الإخوان، ولم تكن هوية ممدوح شاهين السياسية محددة ومازالت غائمة، ولكن خيار الجيش كان واضحا بالدليل العملي، اختار الإخوان. فماذا كان يعني المجلس العسكري بخياره هذا؟ لا يقول أحد إنه أراد جماعة منظمة لها رأس يتحدث معه، ولها جسد ينصاع للرأس بالطاعة. فالرأس والجسد، كانا تحت السيطرة، ولم يفتح لهم الأبواب إلا المجلس العسكري وخياراته، فالمجلس العسكري الذي قبل أن تنطلق رصاصات القتل تجاه الشباب الثائر، لم يكن يمنعه شيء إن اختار تغيير اتجاه التصويب في جهة أخرى. وإذا لاحظ الجميع غياب الداخلية عن دورها الأمني، وحصار جهاز أمن الدولة المؤقت في الأيام الأولى للثورة، إلا أن الداخلية كانت تملك ثلاثة عناصر جرى حشدها وإعدادها وتمكينها بهدوء، وهذه العناصر الثلاثة تمثلت في التنظيمات السلفية، واستخدمت في مواجهة الإخوان بعض الوقت، واستخدمت قياداتها عبر فضائيات مفتوحة على مصراعيها لزلزلة الوعي الشعبي وتغييبه عن قضايا الحياة، حتى وصل بأحد شيوخها الذي يملأ البصر الآن أن أفتى بعدم جواز الخروج على الحاكم طالما أنه مازال يفتح المساجد للصلاة، وتناسى أن الأرض كلها جعلها الله طهورا، ولم يختص المساجد دون باقي أرض الله. وكانت تشكيلات السلفيين مهيأة لتلقي تعليمات الخروج بواسطة الداخلية عبر مشايخها، وكان التشكيل الثاني هو ما أطلق عليه البلطجية، وهؤلاء جرى تجربتهم في انتخابات 2005 وانتخابات 2010 ونجحوا في الظهور للمرة الأولى يحملون أدوات القتل كما مجتمعات الحروب الأهلية في مجاهل إفريقيا. كانت الداخلية بعد الثورة كامنة وتركت البلطجية طلقاء اليد في ترويع المجتمع. وثالث ما كان بالداخلية هو تنظيم "العادلي" والذي كان مختلفا حتى عن أمن الدولة، وهو يقود ويتابع ويقترف الجرائم كما يشاء. تنظيمات الداخلية أضافت إلى الإخوان ذراعين آخرين واحد يشكل عمقا وصل مع الإخوان إلى %60 من مكونات المجتمع السياسي قهرا وبالقوة وباختيارات في التوقيتات وجدول أعمال للفترة الانتقالية مكنهما معا من المشهد السياسي، والآخر يمثل أداة الترهيب والترويع في المجتمع، والمجتمع يتحدث ببراءة الحملان عن أن للداخلية مهام يجب أن تؤديها معتقدا أنها لا تؤدي مهامها وفق السيناريو المعد سلفا. ولم ينه السيناريو مشاهده دون أن يعيد الإعلام إلى حظيرة النظام المعد سلفا وأن يتجاوز دور القضاء. وأن يترك جهاز الفساد الذي يدير الدولة في مكانه، فيستشري ويزداد فجورا. وكانت مقاومة الثوار لهذا السيناريو غير محدودة، مما أوصل المواجهة إلى حد القتل العلني وبلا رادع للثوار قتلا انتقائيا يعلم من يقتل ومن يعتقل ومن يحاكم ومن يحبس، وتركوا لنا ملهاة نتسلى بها هي محاكمة الرئيس المخلوع وابنيه وبعض من قيادات الداخلية، وانهار من بناء الثورة جدر عديدة انزلقت إلى تحويل الشهداء والمصابين إلى سلعة وتجارة وليسوا ثمنا دفعه الشعب لاستخلاص حريته وإرادته. ما تواجهه الثورة في مصر ليس تداعيا بالصدفة، ولكن التعامل معه على أنه سيناريو جرى إعداده مسبقا وبإحكام، يبعد بالتحليل عن السقوط في خطأ الانسياق وراء متغيرات وأقوال تخرج بمصر من فعل التغيير إلى حالة التغييب، والتي يتسارع في اللحظة إنتاجها من كافة المصادر. "اللحية الحديدية" هل هي التوصيف الأقرب لواقع ودور التنظيمات الدينية؟ أطلق على حرس الملك فاروق اسم "الحرس الحديدي"، وانضم إليه أنور السادات في مرحلة من حياته، وهذا التشكيل اعتبر مسؤولا عن محاولة اغتيال مصطفى النحاس زعيم الأغلبية. وكان هناك تشكيل لحماية مبارك والعائلة أطلق عليه "الأفعى الحديدية". وتبدو التنظيمات الدينية في اللحظة تنظيما يحمل ذات سمات التشكيلات السابقة، يبدأ بالحماية فهل يصل إلى الاغتيال؟، ولو كان الاغتيال معنويا للثورة وشبابها. ويبدو من تتابع الأحداث أن هذا السيناريو كان معدا سلفا لمواجهة عملية التوريث إن استلزم الأمر أن يتحرك الجيش، والفارق أنه في حالة التوريث كانت الداخلية والبلطجية والسلفيون في جانب آخر من الصراع في مواجهة تحالف المجلس الأعلى للقوات المسلحة والإخوان، ولكن ثورة يناير جمعت بين فرقاء سيناريو التوريث لمواجهة الثورة، وصار عبء المواجهة حادا وقاسيا على الثوار. الأمر يستدعي مراجعة أمر قوى الثورة، هل سيستجيبون لمحاولة الاحتواء من المجلس العسكري، وهل سيبقون بلا تعبير مباشر عنهم تنظيما وقيادة، وسيكتفون بمن جلبتهم الأحداث إلى السطح بأهوائهم ورؤاهم الليبرالية فاقدة البعد الاجتماعي إلا من باب التجميل وتحسين الأقوال بما يتوافق مع هوى الكتلة الشعبية؟ وهذا حديث آخر سنعود إليه لأنه يستحق أن ينال حظه من القراءة المتأنية.