13 سبتمبر 2025

تسجيل

تحدي الهوية

05 ديسمبر 2021

وقد ينثني دمع العين طرباً ما لم يحير من شدة الألم فما بين مشاعر البهجة والفخر بما وصلنا إليه في هذا الوطن الغالي، من نقلة حضارية جبارة، وتسارع مسير قطار التكنولوجيا المبهر، إذ كيف من العدم قد رصت الأبنية وتشكلت في أبهى صورها، وتواترت الإنجازات التي تحمل في أنفاسها شذى الانعتاق من كل قيد وتنبثق عن إرادة وعزيمة عنيدة أمام كل المحاولات المستميتة لإجهاض مسيرة التقدم والنماء بعيداً عن التبعية أو الاذعان والوصاية عبر سلسلة من المواقف الوطنية والقومية التي كانت مدعاة للفخر والاعتزاز وتقديم العبرة للأجيال القادمة، وما تزال الخطى تتسابق في ركب المنافسة حيث تتجسد الرؤية الاستشرافية للمستقبل بكل ما يحمله من تطلعات وطموحات. بينما نعتصر ألماً، لمنظر آلة التطور وهي تجتث الغالي والنفيس من تراب هويتنا، تراثنا وقيمنا التي تعتبر أساس انتمائنا والبعد الوجودي لكينونتنا وخصوصيتنا، وتبدلها بصور واعتقادات لا تنتمي لمجتمعنا وعاداته، فالتمسك بالموروث مطلب لإثبات الهوية الوطنية، حتى لا تنسلخ عن جلدتها فتبدله بآخر لا يؤاتيها ولا يمثلها، فالتطور والانفتاح والحداثة لا تعني التفريط في الهوية، حتى نوشك أن نشعر بالغربة ونحن تحت سقف الوطن !! هذا بالتحديد ما يحصل، حيث الشعور بأن السعي وراء التطور والرقي هو من أجل إرضاء آخرين ينظرون إلينا بنظرة الدونية والتخلف !! وقد بُذرت في عقولهم هذه المعتقدات منذ مئات السنين فلن تفلح المحاولات مهما كانت عظيمة وعميقة في كسب ودهم !! إنه من الأولى التركيز على ترسيخ مفاهيم الهوية الوطنية العربية والاسلامية، فيراها ويستشعر بها كل من يعيش على هذا الوطن، ويعجب بها كل من يزور هذه الأرض الطيبة المعطاءة، وفرض القوانين التي تلزم الآخرين باحترام العادات والتقاليد التي تشكل روافد تلك الهوية وجذورها الضاربة المتعمقة منذ الأزل في قلوبنا، فالحقيقة التي يجب أن يستوعبها البعض جيداً، أن الشعوب تتباين عن غيرها بصبغات مختلفة، مما يمنحها صفة التميز، وهذا مدعاة للإعجاب والفخر، قال عزّ من قال "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" فقد منح الخالق جميع الشعوب ملامح خاصة يتصفون ويُعرَفون من خلالها، فلماذا نرغب في أن نكون نسخة مكررة عن الآخرين، لماذا نستحقر خصائصنا التي ميزنا الله بها عن الآخرين وننظر إليها بنظرة تخلف وازدراء؟! لماذا نسعى أن نقدم للغير ما يناسبهم ولا يلائمنا ؟!! رغم أنه من الجميل أن يجرب الإنسان أشياء لم يألفها، أو يتعامل مع ذات الأشياء ولكن بالطريقة التقليدية للشعب والبلد الذي يقيم فيه أو اختار أن يزوره لماذا ما نزال نستعير من الآخرين معتقداتهم وعاداتهم وحتى أسلوبهم و طرق تفكيرهم وإن كانت فاسدة؟!! ونتنكر لكل ما هو إسلامي وتراثي وينبع من أصالتنا وتاريخنا وإن كان جميلا ؟؟ حتى وصل بالبعض أن يحتفل بمناسبات لا تمت لديننا ولا لمعتقداتنا بأية صلة، والمدهش في الأمر أن يكون هناك تنافس في شكل الاحتفالات والتجمعات التي تقام للاحتفال بمثل هذه المناسبات الدخيلة، فعندما أعقد مقارنة صغيرة فقط عما يحدث في بلادنا وبلادهم وأرى أنه لا أحد قد يهتم لمناسباتنا وشعائرنا، بينما أرى الفارغين من العقل والدين هنا يتسابقون على الاحتفال بأعيادهم الدينية وغيرها، كاحتفالهم بالهيولين وأعياد الكريسمس المسيحية، فلا يخلو فندق أو مجمع تجاري وللأسف بعض المنازل المسلمة من أشجار الكريسمس!! ناهيك عن إقامة بعض الحفلات والفعاليات الموجهة لاجتذاب رضا الغرباء!! ليمجدونا في صحفهم وإعلامهم!! بدعوى التقدم والتحضر والتسامح مع الآخر، فكيف ندعي الاستقلال والحرية ونحن سجناء لعقلية غريبة عنا ؟! وكيف نرهن إرادتنا للغير يفعل بها ما يشاء؟! لا أرى حرية في ذلك مطلقاً!! فما الأسباب الحقيقية وراء هذا الانقياد الأعمى والتخبط العشوائي في ثقافة لا تعبر عن شخصيتنا، فبتنا لا نعلم حقيقتنا، وقد فقدنا مشاعر الاعتزاز بالتراث والروافد الأصيلة لهويتنا، نتقيد بمعتقدات دخيلة كدليل على النهضة والتطور والانفتاح، فالأصل التمسك بالهوية الإسلامية والعربية فهي ليست مجرد شعارات نقرأها في الصحف والكتب وإنما يجب أن تترجم فعلياً على أرض الواقع الذي يفتقر حقيقة إلى ذلك، خصوصاً بعد أن انصرفنا عن لغتنا ولبسنا ثوباً ليس بثوبنا، فالجميع يهتف ويبادر إلى تشجيع اللغة العربية وكأنها دخيلة علينا وليست كالدم تجري في عروقنا، فالهتافات شيء وما يحدث شيء آخر، فمعظم التعاملات أصبحت بلغة غير لغتنا، فإن كنت لا تعرف الإنجليزية فستشعر بأنك جاهل ومتأخر، إذ أصبحت اللغة الإنجليزية مقياسا لمدى تقدم الفرد في مجتمعنا، أصبحنا غرباء في وطن يعج بأطياف الجنسيات المختلفة، أتذكر منذ زمن عندما كنت أزور دولة خليجية كنت أتمنى أن أرى فيها مواطنيها وسكانها الأصليين، بعد أن أصبحوا قلة في مجتمعهم، وها أنا أرى اليوم نفس الصورة تتكرر إذ أصبح المواطنون قلة في ظل الوجود الديموغرافي الهائل والخطير للجنسيات الأخرى والذي يهدد التركيبة السكانية. ولهذا فقدنا احترامنا بعدما تنازلنا عن فرض اعتزازنا بهويتنا، واستسلمنا طواعية لكل فكرة ومعتقد وافد غريب، فما أسهل أن نساق خلف كل تافه وردئ، فأصبحنا في نظر الآخرين كفرخ البجع الذي ظن أنه فرخ بط بعد أن تاه في المزرعة وعاش مع طيور البط مقلدا ومحاكياً لحركاتهم، فلم يستطع أن يتأقلم معهم لأنه في النهاية اكتشف حقيقته وذهب إلى بني جنسه الذين ينسجم معهم، فما أشبهنا بفرخ البجع هذا حين نحاول أن نلبس ونأكل ونشرب ونتزوج ونفكر ونعمل كما يفصلون لنا بالقياسات الأجنبية، فهل يجرؤ أحد أن يكبح اندفاعاته ويمكث برهة مع نفسه فيسألها لماذا؟ التحدي أن تقبض بيد على آلة التطور والانفتاح وتقبض بالأخرى على القيم والأخلاق والموروث واللغة المكونة للهوية الإسلامية والوطنية لحمايتها من الاندثار في ظل هذا الزخم من الهويات المتعددة فوق أرض واحدة، وهذه المسؤولية يشترك بها الأفراد والأسر والمؤسسات وأصحاب المشاريع التجارية كالمطاعم والمقاهي ونحوها - لما لها من نفوذ بالغ في انتشار بعض السلوكيات والاتجاهات المستوردة وغير المألوفة - بدءاً من حرصهم على إحياء عقيدتهم وهويتهم الإسلامية والوطنية والعربية والاعتزاز بها في نفوس النشء وانتهاءً بالممارسات الفعلية التي تبرز وتدعم ذلك من خلال التوجيهات والإجراءات اللازمة للامتثال للقواعد الارتكازية للهوية الإسلامية والوطنية. [email protected]