13 سبتمبر 2025

تسجيل

أزمة المجتمع المصري

05 نوفمبر 2013

حديث السياسة المتأنق لغة وصياغات عما يجري في مصر، يبدو مع الوقائع هروبا من الحقيقة، والولاية على الشعب والثورة تبدو أيضاً لونا آخر من القرصنة واختطافا جديدا للثورة والدولة. استهلكت كلمة الشرعية واستبيحت حرمات كثيرة وجرى التجرؤ على قواعد استقرت في علم الثورة والسياسة وتكوين الدولة، وتجري ممارسات في مضمونها فوضى تحت عناوين هزيمة الخوف، وتحبس الثورة في نطاق تفاصيل جزئية، ويبلغ السفه مبلغه عندما يقع ذلك كله ويصمت من يدعون الفكر والثقافة. تبدو مصر وقد تحولت إلى ساحة للتقاضي وليست ساحة للثورة، محاكمات وإحكام، مظاهرات واعتداءات، كيانات تولدت بلا جذور وغيرها ادعت ملكية الدين، أمراء السياسة وليسوا أمراء الحرب، ولكنهم يشاركونهم في تجارة الأفيون. الأفيون المنتشر في ربوع مصر الآن لا علاقة له بزهور الخشخاش، ولكنه لون جديد من الأفيون تنتجه أجسام عطنة وعقول احتلتها الأنا وهي تتغنى باسم الشعب، فأطاح بالكثير من المفاهيم والقيم الحاكمة للعلاقات في الوطن، وأكثر من هذا حوَّل قضايا الثورة والتغيير إلى عراك بلا هدف غير النفي والإقصاء والاستحواذ، وانتقلنا من توصيف المجتمع بقواه الاجتماعية، إلى توصيفه بالقدرة على الصلف والبلطجة ولو تحت عباءة الدين، أو عباءة الرياضة، والفارق بينهما يتسع ليشمل كل مقومات الحياة. في الفترة قبل يونيو 2013 كان واضحا أن هناك من يمكن اتهامه بمحاولة الاستحواذ وتفكيك الدولة، ولكن ما بعد يونيو 2013 تعددت الكيانات التي تتولى المهمة بالوكالة، وكأننا بواحدة من جمهوريات الموز، قوى من الخارج وتجار الكوكايين وجماعات مسلحة تعلن أهدافا سياسية وفساد يعشش في ثنايا المجتمع، والضحية لهذا كله مجتمع في القاع يعاني الجوع والمرض والجهل والاغتصاب، وإذا كان الاغتصاب الجنسي مرفوضا، فإن اغتصاب الشارع والأماكن واستعمال العنف يصمت عنه المجتمع في مصر وكأنه من طبيعة الأشياء أو كان ينشده أو أنه لا يراه خداعا للنفس وهروبا من المسؤولية. الحقيقة المفزعة التي تطل من ثنايا صخب الأفيون المصري، أن الشعب فقد ثقته في الجميع، وهي مرحلة تكلل فيها الفوضى بداية تحلل القيم والانفلات والبحث عن بديل للصبر والدولة ومؤسساتها، هي بدايات لظلام لا يعلم أحد مداه. صخب الأفيون المصري نقل الثقل من حركة للشارع مثلت نقطة التعادل والمواجهة لنظام مبارك بكل ما عليه من مآخذ، نقله هذا الثقل إلى جماعات تحاول أن تثمن وجودها بادعاء الولاية على الشعب وحركة الثورة، وهي بما تعلن وتفعل تمارس تفكيك الوطن والدولة على حد وعي قاصر أو عبقري لم يستوعبه الشعب بعد، وأضاف إلى إرهاب العنف إرهابا فكريا ومعنويا تجري ممارسته من الذين هبطوا من سماء الثورة على المجتمع المصري، أسماء أو كيانات كل رصيدها أنها تحمل ختم الحصانة من اسم ميدان أو شارع أو موقف، وصارت بذلك تملك حق الولاية، يدعون الثورة ولا يدركون أن من أهم قواعد الفعل الثوري المجرد، أنك تحمل شرف البداية ولكنك على أي نحو لا تملك حق الولاية على حركة مجتمع بأكمله. صخب الأفيون المصري وصم كل من مارس العمل العام زمن مبارك بالفلول ولم يتخذ موقفا من التطهير أو من الفساد وخلط بين الحق الإنساني وحق الوطن، وجرى نسخ تعبير العدالة الانتقالية للتهرب من حق المجتمع في المحاسبة، وعجز عن إيجاد تصور للمستقبل فهرب تحت دعاوى العدالة الانتقالية أيضاً إلى ما أسماه بالمصالحة، وعجز عن وضع قواعد للمشاركة في الحياة السياسية، وادعى فضلا من أدعيائه بلا حق يملكونه أن العزل السياسي لا مكان له وكأنه فعل من الشيطان وليس فعلا في مواجهة الفساد والفاسدين. وصخب الأفيون المصري تعامل بعدم معرفة أو علم مع قضية الجيش المصري والدولة. أفقد صخب الأفيون حقيقة موقف الجيش المصري في 25 يناير، وكأن ميلاد مصر يبدأ من حيث يولد لدى الصاخبين بالأفيون بميلاد وجودهم، وكأن الجيش المصري لا يملك تاريخا أعمق من ميلادهم ورصيدا يجعل من العلاقة بين الجيش المصري وقضاياه الوطنية علاقة تكامل لا تضاد ولا تنافر، وكأن الأمن القومي، الذي هو بالضرورة مجموع مقومات الوجود والحفاظ على البقاء، لديه بديل عن الجيش والشعب. وصخب الأفيون المصري يمزج بين الأخطاء وبين مقومات الوجود، ولا يعيد الوعي بمكونات القوة للوطن. وإذا كنا ننكر على صخب الأفيون المصري الذي يملأ الأفق المصري بادعاءات ضد الجيش المصري، فإننا في الوقت ذاته لا ننكر أخطاء الفترة الانتقالية، ولن تعود الصحة النفسية للعلاقة بين الجيش والشعب بغير قراءة دقيقة للفترة الانتقالية، نحتاجها نعم، ولكنها لا تستبدل صحة العلاقة بتربص الثأر، فاستبدال الخصومات هو طريق الانهيار للثورة ولعناصرها المخلصة. وصخب الأفيون المصري يتجاهل حقائق ميلاد 30 يونيو 2013 وموقف الجيش الحاسم لإرادة الشعب، ويبقى من حوله جدلا آخرس مبهما لا يملك نورا ولكنه يشيع ظلام خصومة مدعاة بين الشعب وقواته المسلحة. إن صخب الأفيون المصري يحيل الوطن إلى ساحة عراك غير مبرر بين قوى الفوضى وبين مكونات الدولة، لن يدفع الزاعقين وصانعي الصخب ثمنا له، ولكن مصر كلها ستدفع الثمن، والصورة من حولنا تتحرك فيها القوى والعلاقات والأهداف لتعيد السيطرة وتقتل الإرادة الشعبية أو تنحرف بها عن مرادها. لو أنهم تخلصوا من صخب الأفيون وراجعوا بالعقل نقطة مفصلية في عام 1967 لوجدوا أن مراجعة علمية وموضعية للعلاقة بين الجيش والدولة، ولكن تعجل المغانم يدفع بالصاخبين إلى النظر تحت أقدامهم فتطيح برؤوسهم جلسات الكلام والجدل الأجوف. إن مشهدا آخر يجري في رحاب الجامعة، يأخذ من رصيد الحركة الوطنية الطلابية ولا يضيف إليها، مشهد أحال الحركة الطلابية إلى حالة من البلطجة، في مواجهة المكان والمضمون والأساتذة، وصارت ظاهرة العنف للجماعات الإسلامية التي دخلت الجامعات على يد محمد عثمان إسماعيل وعثمان أحمد عثمان وأنتجت كل من نراهم من قيادات التيار الإسلامي، تتحول من الاقتتال في مواجهة الطلاب إلى تدمير الجامعة والتجرؤ على قيم دامت داخلها أنها ضمير للأمة يعبر عنها ولا يتحداها، وليس قوة تغيير. إن ما يجري في الجامعة يزيد من علامات الاستفهام والتعجب لدى جموع الشعب، ويدفع بالحركة الشعبية إلى أتون إنتاج عنف لم يره المجتمع المصري من قبل. إن مشهد الصخب الأفيوني المصري في الشوارع من مظاهرات، لا ينم عن جدل داخل وطن بين قواه السياسية، ولكنه يكشف عن صدام يستجضر عناصر تكوينه وببطء. كان تدخل الجيش لإزاحة نظام الإخوان يهدف إلى الحيلولة دون نشوب حرب أهلية، ولكن ذلك لم يحل بين تمادي المظاهرات بعيدا عن كونها تعبيرا عن رأي ولكن سعيا لصدام في مواجهة المواطنين. إنها لم تعد مجرد مظاهرات لتيار سياسي، ولكنها صارت أداة إرهاب مادي داخل المجتمع، فهي تدمر وتحاصر وتعوق، وفي الوقت ذاته تستدعي خروجا من الأهالي ضدها، وهو أيضاً يعبر عن نفسه بعنف مضاد. استمرار هذه المظاهرات فضحت أن القوى السياسية تكمن بعيدا عن المشهد في مقاعد المتفرجين الانتهازية، وعدم قدرتها على مواجهة تيار الإسلام السياسي في الحشد بالشارع وركنت إلى أن الدور أمني وفقط، فارتدت زي نظام مبارك وعقيدته، فانتفى مبرر بقائها، وزاد اغترابها عن الشعب وعن احتياجات المرحلة. وزاد ذلك من علامات الاستفهام لدى الشعب، كيف يمكن لجماعة، قيل في شأن تمويلها وإمدادها بالسلاح، وتماهيها مع باقي التنظيمات المسلحة، كيف لها أن تستمر طوال الأشهر الأربعة الماضية؟، وهل تملك مؤسسات الدولة سبيلا للحيلولة دون استمرار هذا المشهد؟، وهل كل ما يجري يمكن معه قبول هذه الجماعة من جديد داخل لحمة المجتمع؟، وهل هناك أي احتمال لإمكانية إقصائها وسط هذا التصحر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وسكين الخارج يبدو مقصلة ترقب وتتحين لحظة للانقضاض؟ وسط فوضى وصخب الأفيون المصري، يبدو الإعلام المصري وكأنه أداة لإشعال الحرائق، وتبدو وسائط الإنترنت الاجتماعية مدفعية الإرهاب اللغوي للمجتمع، والكل ترتعد فرائسه، ويحاول أن يفرغ طاقة العجز في تبادل مروع للنيران الإعلامية بين المنع والاحتجاج والإثارة، والنتيجة إعلام يكنز أموال الإعلانات ولا يقدم للوطن رؤية، ولكنه يثير من أسباب الفوضى أكثر مما يكشف الحقائق. أنتج الشباب تعبير "مترمل" على من يتعاطى حبوب الترامادول المخدرة، ويبدو أن الحكومة الانتقالية في الحالة "مترملة"، فالأمر في مصر ليس اتخاذ قرارات تحت إرهاب فكري أو إرهاب بالعنف، ولكن الأمر الآن من يستطيع أن يخاطب الشعب ويجمع إرادته لما خرج من أجله في يناير ويونيو ويوليو، واستمرار الوضع على ما هو عليه، سيدفع الشعب إلى خيارات أخرى قد تكون دموية، أو هو قد يعيد إنتاج نظام الإخوان وتيارات العنف. ويستدعي صراخ مرسي في قفص المحاكمة "أنا الرئيس الشرعي" مشهد لزكي طليمات "أرثر"، في نهاية فيلم صلاح الدين الأيوبي وقد أصابته لوثة عقلية بعد احتراق وجه جميلة الجميلات التي منى النفس بها عشقا، وانعدام أمله في ولاية حكم أورشليم، وقد وضعوه في قفص "حيوانات" في موكب انسحاب ريتشارد من القدس بعد هزيمة الصليبيين على يد صلاح الدين، وهو يصرخ "أنا أرثر ملك أورشليم". إن صخب الأفيون المصري يحتاج إلى من يملك الشجاعة لإيقافه، ومن الجميع وبلا استثناء، فالأخطار التي تحيق بمصر لا تتحمل ترف ضياع الوقت، أو القبول بالاختراق الداخلي لأمن الوطن، واعتماد الفوضى بديلا عن التمكين، ومشاركة كل الأطراف في خلق الفوضى، هي بذلك تطلق نفيرا عاما جديدا للشعب أن يأخذ أمره بيده، ولكن كيف هذا؟ هو سؤال الأيام القادمة.