11 سبتمبر 2025
تسجيلفي أعقاب مقتل زعيم فاغنر «بريغوجين» في حادثة تحطم الطائرة، والذي يبدو بشكل كبير بأنه عقاب له كان متوقعا بعد إعلان تمرده على موسكو وتحدي الرئيس بوتين شخصياً. برز سيل من التحليلات المتنوعة حول مستقبل فاغنر بعد مقتل مؤسسها وزعيمها. وثمة اتجاهان رئيسيان لتلك التحليلات، الأول والذي يرى بانتهاء فاغنر نهائيا، أما الثاني فيجادل باستمرارها لكن وفق قواعد وضوابط جديدة تنظم علاقاتها بالكرملين، ونمط القيادة داخلها، ومهامها الخارجية. ويستند أنصار التحليل القاضي بانتهاء فاغنر نهائيا إلى أمرين يبدوان ذات وجاهة عالية، الأول- وهو «تحدي القيادة» بعد فقدان الحركة للقيادة القوية بعد مقتل زعيمها ومؤسسها «الأب الروحي» للحركة القادر على تنظيمها وإدارة عملها والتحكم في عملها تماما وفرض النفوذ التام على أفرادها، وحلقة الوصل الرئيسية بين الحركة والكرملين. فالحركة تعد ميليشيا عسكرية شبه مستقلة، أي تعمل باستقلالية نوعا ما عن سلطة الكرملين. ليس هذا فحسب، بل قتل مع بريغوجين في حادثة تحطم الطائرة، اثنان من أبرز قادة الحركة، منهما الرجل الثاني في الحركة. أما الثاني فيكمن في إدراك موسكو بمدى الخطورة الشديدة لوجود ميليشيات عسكرية غير نظامية تعمل خارج الإطار المؤسسي التنظيمي للدولة، بعدما أعلنت الحركة التمرد وزحفت بقوتها في مشهد لاستعراض القوة إلى قلب موسكو. وبالرغم من وجاهة هذا التحليل، سيما الشق المتعلق بخطورة تضخم قوة فاغنر على روسيا، فربما استوعبت موسكو أيضا درس السودان بعد تحويل «ميليشيا الدعم السريع» السودان إلى خراب وفوضى عارمة في غضون شهرين. ومع ذلك، فالسيناريو الأرجح بقوة هو استمرار الحركة لكن وفق قواعد جديدة تماماً. والداعم الرئيسي لرجحان هذا السيناريو هو الأهمية الكبيرة التي غدت تلعبها فاغنر لتحقيق مآرب روسيا الخارجية، وخصوصا في مسألة دعم مصالح روسيا وتمديد نفوذها في الدول الضعيفة أو الفاشلة أو المنهارة سياسيا واقتصاديا. فبواسطة فاغنر ساهمت موسكو في بقاء نظام الأسد في سوريا، ودعم حفتر في ليبيا، وتمديد النفوذ الروسي، والاستحواذ على الثروات في أفريقيا. إذن، غدت فاغنر ورقة لا يمكن لموسكو الاستغناء عنها وذلك في سياق الحروب الهجينة التي تتبناها موسكو كعقيدة. بعبارة أخرى، من الصعب أن تلغى موسكو اعتمادها على هذا النمط من أساليب الحروب الذي حقق لها نتائج مبهرة، خاصة في هذا الوقت التي تنشغل فيه بحربها القوية مع أوكرانيا التي استنفدت فيها عددا لا بأس به من قوتها وتحتاج إلى المزيد بحسب مصادر استخباراتية متعددة. ستستمر فاغنر على الأرجح، خاصة أن لديها خبرة قتالية واسعة وعدد كبير من المقاتلين يقدر بنحو 10 آلاف مقاتل، وعدم وجود بديل بل ومن الصعب توافره حاليا، لكن وفق ضوابط جديدة ستحددها موسكو، ومن المؤكد أن تتمحور حول ثلاثة ضوابط رئيسية: الأولى- ولعله الأهم، انتقاء قيادة جديدة للحركة تدين بالولاء التام الأعمى لموسكو. ولعلها مهمة صعبة لموسكو حيث تريد زعيما يمتلك مقومات القيادة بوزن بريغوجين، لكن لا يمتلك الطموح والاستعداد للتمرد على موسكو مرة ثانية لاسيما وانه يقود قوة عسكرية شبه نظامية تعمل بشكل شبه مستقل. ولعل مقتل بريغوجين كان من ضمن أهدافه تخويف القيادة الجديدة من عقوبة التمرد. الثاني- فرض مزيد من السيطرة المباشرة على الحركة من جانب الأجهزة الأمنية الروسية، بحيث تكون الحركة أشبه بحركة نظامية أو فرع نظامي من أفرع القوات الأمنية والعسكرية الروسية، وذلك لضمان ولائها التام لموسكو. إذ كان من المحفزات الرئيسية لتمرد فاغنر الأخير هو شعور قادتها ومقاتليها بالاستقلالية عن موسكو، بل وصل هذا الشعور بالتفوق على الجيش الروسي، وأنهم أصحاب الفضل في انتصارات موسكو في أوكرانيا، وهو ما حدا بهم للزحف إلى قلب موسكو بكل ثقة وجراءة. ويقتضى ذلك من موسكو، الإشراف والمراقبة الشاملة على اختيار مقاتلي الحركة، وأسلوب التجنيد، ومراقبة المهام، والعمل وفق تعليمات موسكو المباشرة في تنفيذ أية مهمة. الثالث- تقليص مهمات فاغنر في الخارج، والإشراف التام لموسكو عليها، والمقصود بالتقليص هنا هو عدم الزج بالحركة في كل مهمات موسكو الخارجية، بل قصرها على مهمات محددة ولفترة قصيرة تحت مراقبة وإشراف تام من موسكو، للحيلولة دون تضخيم قوة فاغنر بشكل واسع يصيبها بالغرور والتمرد على موسكو كما حدث في أوكرانيا. إذ تشير بعض التقارير الأمنية إلى تضخم قوة ونفوذ فاغنر السياسي والاقتصادي بشكل مرعب في بعض البلدان الأفريقية، مما قد يخرج فاغنر من قدرة السيطرة الروسية، ويربك سياساتها ومصالحها في تلك الدول.