15 سبتمبر 2025
تسجيلمازلنا في رحاب سورة الحجرات ونصل إلى قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) (12) (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن) أي كونوا على جانب منه وإبهام الكثير لإيجاب الاحتياط والتأمل في كل ظن حتى يعلم أنه من أي قبيل فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات وحسن الظن بالله تعالى ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين. ومنه ما يباح كالظن في الأمور المعاشية (إن بعض الظن إثم) تعليل للأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقي والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه وهمزته منقلبة من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها (ولا تجسسوا) أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين تفعل من الجس لما فيه من معنى الطلب كما أن التلمس بمعنى التطلب في قوله تعالى (وأنا لمسنا السماء) وقريء بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته ولتقاربهما. يقال للمشاعر الحواس بالحاء والجيم. وفي الحديث (لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته). (ولا يغتب بعضكم بعضا) أي لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة (فقال أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فقد بهته) وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) " الغيبة إدام كلاب الناس " (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) تمثيل وتصوير لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه في أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى الاستفهام التقريري وإسناد الفعل إلى أحد إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان وجعل المأكول أخا للآكل وميتا وإخراج تماثلها مخرج أمر بين غني عن الإخبار به وقريء ميتاً بالتشديد وانتصابه على الحالية من اللحم وقيل من الأخ والفاء في قوله تعالى (فكرهتموه) لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل كأنه قيل وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه وقريء كرهتموه أي جبلتم على كراهته (واتقوا الله) بترك ما أمرتم باجتنابه والندم على ما صدر عنكم من قبل (إن الله تواب رحيم) مبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة حيث يجعل التائب كمن لم يذنب ولا يخص ذلك بتائب دون تائب بل يعم الجميع وإن كثرت ذنوبهم (روي أن رجلين من الصحابة رضي الله عنهما بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي إداما وكان أسامة على طعامه عليه الصلاة والسلام فقال ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا لو بعثنا سليمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها فلما راحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما فقالا ما تناولنا لحما فقال عليه الصلاة والسلام إنكما قد اغتبتما) فنزلت. • قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير) (13) (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) من آدم وحواء أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب وقد جوز أن يكون تأكيدا للنهي السابق بتقرير الإخوة المانعة من الاغتياب (وجعلناكم شعوبا وقبائل) الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد وهو يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن يجمع الأفخاذ والفخذ يجمع الفصائل فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وقيل الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب (لتعارفوا) ليعرف بعضكم بعضا بحسب الأنساب فلا يعتزي أحد إلى غير آبائه لا لتتفاخروا بالآباء والقبائل وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب وقريء لتتعارفوا على الأصل ولتعارفوا بالإدغام ولتعرفوا (إن أكرمكم عند الله اتقاكم) تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف التحقيقي كأنه قيل إن الأكرم عنده تعالى هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى. كأنه قيل لم لا تتفاخروا بالأنساب فقيل لأن أكرمكم عند الله اتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى(قال عليه الصلاة والسلام من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله). (وقال عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله تعالى وفاجر شقي هين على الله تعالى). وعن ابن عباس (رضي الله عنهما) " كرم الدنيا الغنى وكرم الآخرة التقوى " (إن الله عليم) بكم وبأعمالكم. (خبير) ببواطن أحوالكم.